الأربعاء، 25 مارس 2015

بيان مُشكل الأحاديث لأبي بكر محمد بن فورك ملاحظات على طبعة الألماني: رايمند كوبرت

بيان مُشكل الأحاديث لأبي بكر محمد بن فورك
ملاحظات على طبعة الألماني: رايمند كوبرت
      تعبر طبعة رايمند كوبرت لكتاب "بيان مشكل الأحاديث" أقدم طبعة للكتاب، وقد رأت النور في روما، وعلى وجه الدقة في الفاتيكان سنة 1941 [1]،  لكنها طبعة ناقصة إذ اعتمد المحقق على نشر "نخبة مختارة"[2] بعناية من الكتاب الأصلي، ورغم ذلك فإنها طبعة نقدية ممتازة بالمقارنة مع عدد من الطبعات التي تلتها والتي اعتورتها الكثير من المثالب مثل الأخطاء والتحريفات بالإضافة على اعتماد مخطوطة واحدة.
      تتضمن طبعة الكتاب مقدمة المؤلف كاملة وبعض الفصول المختارة بعناية والمفصحة عن منهج الرجل في تأويله للأحاديث النبوية المُهِمة للتشبيه، ورغم الجهد الكبير الذي بذله المحقق في مقابلة النسخ وتصحيحها فإنه لم يبذل جهدا يذكر على مستوى تخريج الآيات والأحاديث والأشعار ونسبتها إلى أصحابها مما هو عادة من جهود المحققين. كما أن مقدمة التحقيق رغم قصرها شابها الكثير من الاعتلال:
      ظهر ذلك أولا في كم الأحكام الاستشراقية النمطية التي تطفح بها ، فهو يعتبر أن تصور الفكر الإسلامي عموما والفكر الكلامي خصوصا للإله هو فكر مغرق في الرَثَاثة والضحالة مقارنة مع الفكر المسيحي، يقول عن جهود ابن فورك في تأويل الأحاديث المتشابهة: "لعلنا نستطيع بالمنظور الشامل فهم التطور الأشعري، من وجهة النظر الإسلامية أيضا، على أنه تطور فكري صحي اقترب به أكثر الإسلام من مستوى ارتقاء الفكر المسيحي عن الإله"[3]. وهذه الصورة النمطية المقابلة بين المسيحية والإسلام على أساس أن الدين الأول متطور بينما الثاني مجدب وقاحل بخصوص التصورات اللاهوتية هو لب الرؤية الاستشراقية المسكونة بالمقابلة الجوهرية بين الشرق والغرب/ الإسلام والمسيحية. 
      وليس هذا وحسب بل إن ثمة حكما استشراقيا آخر مرتبط بالصورة النمطية الأولى ويتأسس على أن العديد من الأفكار المسيحية اللاهوتية قد تسربت إلى المنظومة الإسلامية في غفلة من أهلها وأصبحت جزءً من التصورات الإسلامية، وهذه التسربات هي التي أضفت على الإسلام وجهه المشرق، يقول بصيغة توكيدية لا تقبل الجدل: "من المعلوم أن الإسلام قد دخل إليه في زمن انتشاره العاصف بعض الأفكار المسيحية دون أن يلاحظ ذلك علماء المسلمين"[4].
      ثم إنه لا يتورع أن يصف بكثير من الفضاضة الأحاديث المشكلة التي توهم التشبيه بأنها "أحاديث مظلمة"، ويكرر ذلك في مواضع كثيرة من تقديمه للكتاب، مما يشي بنوع من الإصرار المتعمد.
      وتظهر الاعتلالات كذلك في عدم قدرة المحقق على فهم النصوص التاريخية المتعلقة بحياة المؤلف، ثم إنه لا يكتفي بذلك بل يبني على فهمه الخاطئ أحكاما يطيش لها العقل، ومن ذلك القصة التي وردت في مصادر ترجمة ابن فورك المتعلقة بمحنته، سأسرد الواقعة التي يرويها تلميذه أبو القاسم القشيري ثم اتبعها بتعليقات السيد المحقق ليتبين لنا مدى سوء الفهم الذي وقع فيه الرجل ومدى التعسف في التأويل المنبني على سوء الفهم.
      أورد تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة ابن فورك ما يلي: "وقال الأستاذ أبو القاسم القُشيري تلميذه، سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يقول: حُملت مقيَّدا إلى شيراز لفتنة في الدين، فوافيت باب البلد مُصبحا، وكنت مهموم القلب، فلما أسفر النهار وقع بصري على محراب في مسجد على باب البلد مكتوب عليه )أليس الله بكاف عبده( وحصل لي تعريف من باطني أني أُكفى عن قريب، فكان كذلك"[5].   
      يعلق صاحبنا على هذه الواقعة قائلا: "في هذا التقرير يظهر ابن فورك في صورة غريبة: فهو في الوقت نفسه حارس مساجين في قضايا الزندقة والكفر ورجل التدين العميق"[6] ترى أين يظهر في النص أن ابن فورك كان حارس مساجين اللهم إلا في خيال المحقق، ومن ثمَّ يستغرب كيف يجمع الرجل بين أمرين متناقضين هما التعصب الديني والإيمان الصادق، يقول: "هذا الجمع الغريب، الذي يبدو لنا نحن أبناء اليوم عسيرا على الفهم، لا تقبل الجمع كالتعصب الديني والإيمان الصادق"[7].
      هذه فقط بعض الملاحظات المتعلقة بمجموعة من الأحكام النمطية وسوء الفهم الذي وقع فيه المحقق الناتج عن ترسخ الرؤية الاستشراقية عميقا في أعمال الغربيين المتعلقة بالحضارة الإسلامية، وإلا فإن الرجل قد بذل جهدا طيبا في المقابلة بين النسخ المختلفة للكتاب في هذه النخبة المختارة منه الشيء الذي جعل عمله متميزا.
     
       




[1] -دانيال جيماريه، مقدمة تحقيق كتاب "كتاب مشكل الحديث أو تأويل الأخبار المتشابهة" لأبي بكر محمد بن فورك. طبعة المعهد الفرنسي للدراسات العربية-دمشق 2003. ص م1.
[2] -رايموند كوبرت، مقدمة تحقيق كتاب "بيان مشكل الحديث" لأبي بكر محمد بن فورك، ترجمة: محمود كبيبو. الوراق للنشر 2012. ص7.
[3] -المرجع نفسه ص13.
[4] -المرجع نفسه ص17.
[5] -تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى. تحقيق: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعو الأولى 1964. 4/130.
[6] -المرجع نفسه ص25.
[7] -المرجع نفسه ص26.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق