الجمعة، 23 أكتوبر 2020

قراءة في كتاب "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج"

قراءة في كتاب "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج"

تقديم:

هناك موقفان متضادان في التوجه متفقان في النتيجة والمآل، فيما يتعلق بقضية علاقة القرآن الكريم بالكتب المقدسة السابقة: العهدين القديم والجديد، وهذان الموقفان هما:

الموقف الأول: وتمثله العديد من الدراسات الغربية، وخصوصا تلك الدراسات المتأثرة بالرؤية الاستشراقية العامة القائمة على أساس الفصل الجوهري بين الأديان، والقائلة بأن الروح العامة التي تحكم الدين المسيحي وكتابه المقدس ليست هي ذاتها التي تحكم الدين الإسلامي وكتابه، ومن ثمّ يروِّجون لفكرة أساس في أطروحاتهم، وهي أن الإسلام والقرآن ليسا إلا نسخة مزيفة لما ورد في العهدين القديم والجديد، ويفترضون بناء على ذلك وجود أحد أمرين:

أ- وجود نسخة مسيحية ويهودية للقرآن مطمورة في ثناياه يمكن الكشف عنها عن طريق إعمال أدوات النقد الفيلولوجي من خلال المقارنات اللغوية، أو آليات النقد الكوديكولوجي بمقارنة النسخ القديمة للمصاحف بالمصحف المتداول اليوم، ومن ثمَّ يزعمون أن هذه النسخة الأصلية المفترضة قد تمّ إدخال العديد من التعديلات عليها بوجود الإسلام الإمبراطوري فيما بعد النشأة المبكرة للإسلام.

ب- وجود مُعلِمين مفترَضين قاموا بإملاء القرآن المبكر على النبي محمد، وكانوا في ذلك وسطاء محتملين بين الكتب المقدسة السابقة وبين القرآن.

يقول مؤلف الكتاب الذي نروم تقديمه في هذه الصفحات الأستاذ مصطفى بوهندي عن هذا الموقف الذي "شاع عند أهل الكتاب والدارسين الغربيين الذين لم يروا في هذا القرآن إلا نسخة عربية للكتاب المقدس جمعها محمد مما سمعه من أهل الكتاب... أثناء أسفاره التجارية..."[1].

الموقف الثاني ويمثله "الاعتراض الشائع لدى المسلمين... ضد هذه الكتب وضد التعامل معها، بوصفها كتبا محرّفة قد أبطلتها شريعة محمد وقرآنه ونسختها"[2]، ولعل هذا الموقف قد بدأ مبكرا لأسباب خاصة بالتأسيس متمثلا في الروايات المنسوبة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه التي نهى فيها عن الاطلاع على الصحف المقدسة في زمانه، فقد رُوي أنه رأى عمر بن الخطاب وفي يده صحيفة من التوراة، فغضب فقال: "أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني"[3]. ثم جاءت المواقف الفقهية بعد ذلك لتزيد الأمر تأكيدا، حيث ميّز الفقهاء في قراءة هذه الكتب بين مواقف مختلفة، فحظروا ذلك على العامي، وأجازوا قراءتها للعالم ولكن بشرط تفنيدها والرد على أصحابها[4].

بينما الصحيح حسب الأستاذ بوهندي: "أن رسالة محمد جاءت لتصديقها وتأكيد ما فيها من نور وهدى"[5]، وليس لنفيها نفيا تاما، ومنع قراءتها والاستفادة منها.

والموقفان المشار إليهما، رغم أنهما متعارضان من حيث الشكل باعتبار أنهما ينطلقان من خلفيات متضادة، فإنهما من حيث الجوهر يشتركان في نفس المآل، وهو نفي كل واحد منهما للآخر، فثمة إما نفي للقرآن وأصالته من جهة، وإما نفي للكتب المقدسة السابقة، وإمكانية الاطلاع عليها والاستفادة منها من جهة مقابلة.

لكن الأستاذ بوهندي في كتابه الذي بين أيدينا "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج" حاول تصحيح هذا الوضع عن طريق اجتراح موقف معتدل ومختلف يقوم على فكرة أساس ذات جناحين هما:

- إمكانية الاستفادة مما ورد في الكتب المقدسة بعهديها القديم والجديد، مما ما تزال روح النبوة ونور الوحي حاضرين فيها.

- إعمال النقد القرآني لهذه الكتب فيما ثبت تحريفه، مع بيان الإضافات القرآنية التي أغنت الأحداث التاريخية والحقائق الدينية الواردة في هذه الكتب.

وتتأسس هذه الفكرة على اعتقاد مزدوج مفاده، أن الكتب المقدسة السابقة، وإن تعرضت للتحريف والتزوير في الجملة، فإنها ما تزال تحتفظ بالكثير من نورانية الوحي وهَدي النبوة.

وعليه، فإن النتيجة التي يمكن التوصل إليها من خلال هذا الموقف تتمثل في شيئين:

أولا: تأكيد الأصل الإلهي للقرآن، وذلك من خلال إثبات الإضافات الكثيرة التي قدمها مما لا ذكر في هذه الكتب السابقة، وذلك باعتبار أن القرآن هو حلقة في مسيرة الأنبياء، حيث لم تختلف تلاوته في جوهرها عن تلاوتهم من حيث الدور النقدي والاسترجاعي الذي مارسوه هم أيضا على من سبقهم[6].

ثانيا- إثبات صحة أصل التوراة، وأنها ما تزال تحتفظ بروحها الأصلي، رغم ما تعرضت له من "أصناف التأثير التاريخي والاجتماعي والفكري والمذهبي والسياسي"[7]، فقد جعلت الرحلةُ التدبرية الكاتبَ من خلال عمله في هذا الكتاب يدرك "أن أسفار الكتاب المقدس لا تزال تحمل نور وهدى الوحي وأسس ومبادئ التوحيد التي أنزلها الله على رسله وأنبيائه، وأنها لا تزال تمثل مصدرا أساسيا للمعرفة والإلهام والوحي"[8] مصداقا لقوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[9].

ومن ثمّ، فإن "ما ذكره القرآن من تحريف وزيادة ونقصان وخلط ونسيان وتوظيف وكتمان، إنما يتعلق بأصحاب هذه الكتب الذين هم ليسوا سواء؛ فمنهم الصادقون والمتقون والمؤمنون ومنهم غير ذلك ممن يحرّفون الكلم عن مواضعه ويشترون به ثمنا قليلا ويكتمون الحق وهم يعلمون"[10].

1- تعريف مقتضب بالكتاب وسياقه:

صدر الكتاب الأخير للأستاذ مصطفى بوهندي "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج" سنة 2018، عن دار الساقي في 287 صفحة، وقد ذكر فيه المؤلف 208 إضافة قرآنية مقسمة على ثمانية عشر فصلا[11]، ويعتبر هذا الكتاب الحلقة الثانية في سلسلة "الإضافات النوعية القرآنية" التي خصصها الكاتب لبحث مقارِن بين القرآن الكريم وأسفار العهد القديم بخصوص مواضع وقصص ونصوص مشتركة بينهما، وقد كان الجزء الأول من هذه السلسلة صدر عن نفس الدار و"مركز أديان للبحث والترجمة" سنة 2011 بعنوان "الإضافة النوعية القرآنية: مراجعة نقدية في سفر التكوين".

والأستاذ مصطفى بوهندي متخصص في تاريخ الأديان ومقارنتها، فهو أستاذ تاريخ الأديان ومقارنة الأديان بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وكذلك مدير مجموعة من مراكز الأبحاث المهتمة بهذا الحقل العلمي الدقيق مثل "مركز مراجعات للدراسات والأبحاث"، ويمتلك الرجل مشروعا كبيرا مؤلفا من عدة حلقات، خصص كل كتاب أو حلقة للمقارنة بين القرآن وأحد أسفار التوراة الخمسة، وقد أشار بوضوح إلى ذلك عند بيانه لسبب إغفاله لبعض المحطات المهمة في قصة موسى التي عالجها القرآن، مثل قصة البقرة الصفراء في هذا الكتاب بأنها لم ترد في سفر الخروج، وأنه سيعمل على معالجتها عند مقارنة القرآن مع الأسفار الباقية، يقول: "لقد خصصنا هذه المواضيع جميعا وغيرها بالمراجعة والدرس، وبيان الإضافات النوعية القرآنية عليها في كتب مقبلة خصصنا كل واحد منها لسفر من الأسفار الخمسة من الكتاب المقدس بالمنهجية نفسها المتبعة في هذا الكتاب"[12].

ثم إن هذا المشروع نفسه يندرج ضمن مشروع أوسع للرجل اعتنى فيه بمعالجة وبحث الكثير من القضايا في الدراسات الإسلامية على ضوء المقارنة مع التلاوات الكتابية السابقة؛ حيث تتبع الآثار المحتملة لهذه التلاوات على الفكر والعلوم الإسلامية، هذا المشروع الذي بدأه منذ مدة، فقد كانت رسالته للدكتوراه حول موضوع التأثيرات المحتملة للعقائد والأفكار المسيحية في أقوال المفسرين وكتب التفسير، والتي نشرها بعنوان "التأثير المسيحي في تفسير القرآن" سنة 2004[13].

ومما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه بخصوص كون كتاب "الإضافات القرآنية..." هو حلقة ضمن مشروع قول المؤلف نفسه: "يعد هذا الكتاب ثاني أعمال سلسلة الإضافة القرآنية النوعية، خصصناه لبيان ما أضافه القرآن الكريم على السفر الثاني من أسفار العهد القديم، من تصديقات ومراجعات وبيانات نوعية"[14].

فالفكرة الأساس التي يقوم عليها الكتاب والمشروع برمته هو بيان الإضافات النوعية التي قدمها القرآن على أسفار التوراة الخمسة.

فما معنى الإضافة القرآنية؟

وما هي أهم أنواعها؟

وما هو الغرض من إيرادها؟

وما هو المنهج الذي اعتمده المؤلف في هذا الكتاب؟

وما هي أبرز الاستشكالات التي يمكن طرحها بخصوص كل من الإضافات والمنهج؟

2- الإضافات القرآنية وأنواعها

تَعني الإضافة في اللغة الميل ومنه جاءت المعاني الأخرى مثل الزيادة والضم، وقد وظّف الكاتب الإضافة في كتابه بمعنى الزيادة عموما، وهو معنى مقبول إذا ما استحضرنا أن القرآن يورد الكثير من الزيادات المتمثلة في أحداث وقضايا سكتت عنها التوراة، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن المؤلف يجنح في مواضع كثيرة إلى التوسع في معنى الإضافة لتشمل أنواعا وضروبا أخرى غير الزيادة، وهو ما سأحاول رفع اللثام عنه هنا قبل الانتقال إلى مناقشته في ذلك.

يقول المؤلف في معرض تعليقه على الإضافات التي أوردها القرآن على السرد المتعلق بقصة موسى خلال ميلاده وطفولته وشبابه: "جاءت هذه الإضافات القرآنية متنوعة:

- بعضها مُصدق ومؤكد؛

- وبعضها مُراجع ومُصحّح، على مستوى المعاني والمفاهيم ووصف الأحداث والأشياء والملابسات؛

- وبعضها ناف ومُلغى؛

- كما أن العديد منها صفح القرآن عن ذكر ما ورد في التلاوة السابقة، وكان في صفحه ذاك، إما مهملا له لقلة أهميته، وإما ملغيا له لانتفاء صحته"[15].

هذا ما ذكره المؤلف صراحة من الإضافات، لكن يمكننا زيادة إضافات أخرى من خلال استقراء عمله في الكتاب، منها:

- التفردات القرآنية التي لم يرد لها أصل في التلاوة الكتابية[16].

- التفاصيل الوافية المتعلقة بما أكده القرآن وصدّقه من الأحداث الأصلية التي وردت فقط عبارة عن عناوين كبرى في الكتاب المقدس.

- الترميم القرآني للكثير من الأحداث عن طريق "ردّ النصوص الكتابية إلى سياقها وجعلها أكثر انسجاما"[17]، وهو نوع من أنواع المراجعة والتصحيح، لكنه أرفعها باعتبار الدقة المفترضة في كشف زيف الإضافات التفسيرية غير المنسجمة والمقحمة في النص الأصلي وردها إلى سياقها الطبيعي.

وقبل التعليق على هذه الإضافات، يجمل بنا أن نبيّن القصود المختلفة للمؤلف الكامنة وراء إبرازه لهذه الإضافات القرآنية بأنواعها المختلفة، ولعل أهمها:

أ- "استرجاع الأبعاد الرسالية والقيم الإنسانية والأدوار التاريخية والدينية المتركزة على التوحيد، التي أداها موسى في تاريخ الأديان عموما، وتاريخ بني إسرائيل على الأخص"[18]، خصوصا إذا استحضرنا عنوان الكتاب "موسى والتوحيد". ورغم أنه يحيل مباشرة على عمل مشهور يحمل العنوان نفسه لسيجموند فرويد، فإنه لا تجمع بينهما أية صلات في نظري ما عدا العنوان، وذلك لوجود اختلافات جذرية بين العملين، سواء من حيث المقاصد والغايات أو الحقل المعرفي المشتغل عليه أو الأدوات المعرفية المتوسل بها في البحث والنظر.

ب- إضفاء الأبعاد النفسية والاجتماعية على قصة موسى.

ج- التنبيه على القيم السلوكية والأخلاقية الكامنة في هذه القصة.

د- إبراز فلسفة قصة موسى وإدراجها "في إطار سنن الله التاريخية والاجتماعية الثابتة"[19].

بعد هذا الاستطراد الخفيف، نعود مرة أخرى إلى معنى الإضافة وأنواعها، وذلك أن الملاحظة الرئيسة التي يمكننا مناقشتها هو ذلك التوسع الكبير للكاتب في معنى الإضافة بحيث منحها أبعادا كثيرة ووظفها بطرق شتى الشيء الذي يجعلنا نستشكل بعض تلك الأبعاد والتوظيفات وذلك بالنظر إلى معنى الإضافة في اللغة، ومن بين هذه الاستشكالات التي يمكن سوقها:

أولا: اعتبار التصديق والتأكيد إضافة

بعض الإضافات التي سجلها الكاتب بهذا الاعتبار ذكرتها التوراة كذلك بنفس الطريقة، وهو ما اعترف به الكاتب في أكثر من موضع واعتبر ذلك تصديقا وتأكيدا من القرآن لما ورد في الذكر الكتابي.

لكن الأمر بهذه الصورة يطرح إشكالا مركبا:

أ- فمن جهة أولى، فإن الأمر بهذا الشكل لا إضافة فيه بمعنى الزيادة، بل هو مجرد تصديق وتأكيد، الشيء الذي يطرح علامة استفهام على اعتبار مجرد التصديقات القرآنية إضافات، اللهم إلا إذا كان هدف الكاتب من اعتبار ذلك إضافة ليس فقط ذكر التفصيلات المتعلقة بقصة موسى بقدر ما هو جمع هذه التفاصيل في إطار فلسفي عام، لكن الملاحظ أن الكاتب لم يُطرٍّد هذا المنحى من العمل في جميع كتابه، ولو أنه قام بذلك لكان أجدى من مجرد تتبع السرد التاريخي للأحداث، ومن بين القضايا الفلسفية الكبرى التي كان بالإمكان مناقشتها بنَفَس مقارَني نذكر قضايا التوحيد والنبوة والمعجزة والسنن التاريخية والاجتماعية والقيم الأخلاقية وفلسفة التشريع... وغيرها.

ب- ومن جهة مقابلة نجد إشكالا آخر، وهو المتعلق بالزيادات الواردة في التوراة الخاصة بقصة موسى، والتي لم ترد في القرآن، رغم أنه صدّقها في الجملة، وذلك مثل التفاصيل المتعلقة بواقع الاضطهاد الذي تعرض له الشعب الإسرائيلي واستعرضه سفر الخروج بشكل مستفيض خصوصا في الإصحاح الخامس[20]، بينما اكتفى القرآن بتصديق جوانبه العامة مثل قوله تعالى: "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)"[21].

والأمر هنا لا يتعلق بالتفاصيل التي سكت عنها القرآن سكوتا مقصودا لعدم موافقته عليها مثل أحكام الكهنوت "باعتبارها أُضيفت إلى أحكام الشريعة من طرف الكهنة"[22]، ولا حتى بالتفاصيل التي قام القرآن بمراجعتها، لأنها تتناقض مع الحقائق التاريخية والدينية، بل تتعلق أساسا بالزيادات الواردة في التوراة مما لا ذكر له في القرآن، لهذا قد تكون القاعدة الأنسب في نظري للتعامل مع ما سكت عنه القرآن مما هو من هذا القبيل كالتالي:

- إذا كانت تلك الزيادات متناقضة مع القرآن أو العقل أو الحس أو الوقائع التاريخية الثابتة أو سنن التاريخ وقوانينه أو مقاصد الأخلاق، فلا شك أنه ينبغي ردها، وقد ذكر الكاتب نفسه جملة من القواعد العامة في نقد متون التلاوات الكتابية في كتابه "التأثير المسيحي..."[23]، وساعتئذ فلا بأس من اعتبار سكوت القرآن تصحيحا وإضافة، باعتبار الكتب السابقة هي التي يجب أن تُقرأ في ضوء القرآن لا العكس.

- أما إذا لم تكن تلك الزيادات متناقضة مع ما تمّ ذكره من القواعد، فيمكن اعتبارها مما لا يُصدّق ولا يُكذّب كما قال العلماء قديما[24]، بل لا يوجد مانع من اعتبارها إضافات، وقد تفطن الكاتب لذلك في بعض المواضع واعتبرها بالفعل إضافات، ففي الإضافة رقم 60 المتعلقة بمجال الواد المقدس وبعد أن أورد التفاصيل المتعلقة بهذا المجال في كل من القرآن وسفر الخروج قال: "وكل منهما ركّز على جانب من الحدث وقدّم إضافات نوعية تتعلق بالمجال والرسالة..."[25]. ولو كانت تلك الزيادات خاطئة لما سكت عنها القرآن، فعفوه الوارد في الآية "ويعفو عن كثير"[26] يجب أن يُحمل على ما أخفوه مما لا يتعارض مع القرآن مثل إخفائهم لبيان صفات النبي الذي بشَّر به موسى، وقد خصص له الكاتب فصلا كاملا هو الفصل السابع عشر: "النبي الآتي".

ولهذا، فإن الإشكال الذي يبقى عالقا بعد كل هذا البيان هو مشكلة عنوان الكتاب الذي قَصَر فيه المؤلف الإضافات على القرآن حصرا مع أنه يعترف صراحة بوجود معنى الإضافات في التلاوة الكتابية كذلك.

ثانيا: اعتبار سكوت القرآن "عفو القرآن" في بعض المواضع إضافات، مشكل من جهات

أ- اعتبار السكوت إضافة مشكل من حيث إن الإضافة في اللغة تعني الزيادة، بينما واقع الحال هنا يكمن في عدم ذكر القرآن لبعض التفاصيل الواردة في التوراة، فإذا قبلنا الإضافة بالمعنى الإيجابي الذي تفيده في دلالتها اللغوية فكيف يمكننا قبولها بالمعنى السلبي الذي لا تفيده؟

ب- لم يشترط القرآن على نفسه بخصوص مسألة القصص التي وردت فيه ذكر كل ما يتعلق بها، حتى يتسنى لنا أن نحكم على كل ما سكت عنه بأنه يرفضه ولا يُقره.

والخلاصات التي يمكن الركون إليها بخصوص مسألة الإضافات باستحضار الملاحظات السابقة نلخصها في شيئين:

- التوسع الكبير في معنى الإضافة، حيث استعملها المؤلف بمعنى الزيادة وبمعنى التصديق والتأكيد وبمعنى المراجعة والتصحيح وبمعنى النفي والإلغاء... وهو ما لا يستقيم مع المعنى اللغوي لكلمة إضافة.

- أن المؤلف لم يقدم تعريفا دقيقا لمفهوم الإضافة، حيث يَسهل معه على القارئ تتبع عمله في استقصاء الإضافات بناء على المعنى الذي قدمه، بل اكتفى فقط بذكر بعض أنواعها بين الفينة والأخرى.

3- إضاءات حول المنهج

اعتمد الكاتب المنهج المقارن عموما في دراسته، فهو يعمل كما أوضحنا ذلك على بيان الإضافات النوعية القرآنية التي قدمها القرآن على واحد من أسفار الكتاب المقدس ألا وهو سفر الخروج من خلال المقارنة بينهما بخصوص قصة موسى، ولكن رغم ذلك يمكن الدفع بالملاحظات التالية:

أولا: لم يفصح الكاتب عن تفاصيل المنهج العام الذي سلكه في كتابه، حيث يحتاج القارئ أن يتلمس تلك التفاصيل في مواضع كثيرة ومتفرقة، وربما كان المؤلف يحتاج إلى كتابة مقدمة لمشروعه تكون عبارة عن "بيان أدبي" يلخص فيه الخطوط العامة لمشروعه مثل: المنهج - الأهداف - الإشكالية - تحديد المفاهيم الأساسية خصوصا مفهوم الإضافة...

ثانيا: عوّل الكاتب في تفاصيل المقارنات التي عقدها بين القرآن وسفر الخروج بخصوص قصة موسى على المتابعة التاريخية لأحداث القصة، مع محاولة تبّصر الأسس الفلسفية التي تحكم القصة أحيانا، لكنني أعتقد كما أشرت إلى ذلك سابقا أن المنهج القائم على بحث القضايا العامة في درس الدين المقارَن قد يكون أفيد، وذلك لقدرة هذا المسلك على تحقيق نتيجتين مهمتين هما:

أ- تقريب القارئ والمتخصص على حد سواء من الفروقات العامة التي تحكم الرؤى الدينية والأسس العقدية والتشريعية لكل دين ورسالة.

ب- التبصير بالتوافقات والقواسم المشتركة التي يمكن البناء عليها في أية حوارات أو لقاءات مرتقبة ومطلوبة بين أتباع الديانات المختلفة قصد التأسيس العلمي والتأصيل الكتابي للعيش المشترك.

الخاتمة

إن العمل المهم الذي قام به الأستاذ مصطفى بوهندي في هذا الكتاب وفي مشروعه الكبير بصفة عامة، يمكن حصر أهميته المعرفية والحضارية على الأقل في شيئين:

- أولا: المساهمة في محاولات التقريب بين الأديان التوحيدية الإنسانية الكبرى عبر خلق ثقافة الحوار على أساس قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[27]، وتتمثل الكلمة السواء في الإقرار بعقيدة التوحيد، وبحث المشتركات العامة التي جاءت بإقرارها هذه الكتب المقدسة والتي ما تزال مبثوثة فيها، ومن ذلك مثلا الوصايا التي أخذها الله على بني إسرائيل في الميثاق والتي درسها المؤلف بعناية في الفصل الثامن عشر مثل عبادة الله والبر بالوالدين ولا تقتل ولا تزني ولا تسرق والإحسان إلى القريب واليتيم والمساكين...

ثانيا- محاولة توجيه علم الأديان المقارَن للسعي لبيان القواسم المشتركة بين الأديان التي تُقرِّب ولا تباعد، وإخراجه من الطابع الأكاديمي الصرف الذي يشتغل على ما هو علمي وينسى ما هو إنساني وحضاري.

[1]- بوهندي، مصطفى، (2019). موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج. (الطبعة الأولى). بيروت: دار الساقي. ص283

[2]- المرجع نفسه ص281

[3]- أخرجه أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر ين عبد الله. وقد أورد الحافظ ابن حجر العسقلاني الطرق المختلفة للحديث وناقشها في فتح الباري بشرح صحيح، طبعة دار المعرفة 13/525

[4]- يقول ابن حجر العسقلاني بخصوص هذا التمييز بعض أن حكى رأي بدر الدين الزركشي القائل بالتحريم المطلق إجماعا بنظرها وكتابتها "والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويَصِر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم..." فتح الباري 13/525-526

انظر مواقف المذاهب الفقهية المحرمة للنظر في كتب أهل الكتاب في الموسوعة الفقهية، ج33 ص65. قراءة. (1983). الموسوعة الفقهية، (الطبعة الثانية) الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

[5]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص281

[6]- المرجع نفسه، ص283

[7]- المرجع نفسه، ص281

[8]- المرجع نفسه، ص281

[9]- سورة المائدة، الآية 44

[10]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص282

[11]- وقد صدرت الطبعة الثانية عن نفس الدار في نفس السنة 2019 بعد مرور أشهر قليلة فقط عن الطبعة الأولى، وقد أضاف المؤلف إلى كتابه 27 إضافة جديدة بحيث أصبح عدد الإضافات 235 إضافة قرآنية مقسمة على تسعة عشر فصلا، بحيث أضاف المؤلف فصلا جديدا لكتابه هو الفصل الثامن: موسى والعبد الصالح.

[12]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص284

[13]- بوهندي، مصطفى. (2004). التأثير المسيحي في تفسير القرآن: دراسة تحليلية مقارنة. (الطبعة الأولى). بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر.

[14]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص11

[15]- المرجع نفسه، ص66

[16]- مثل مرحلة التربية والتعليم في حياة موسى والتي يقول عنها الكاتب: "هناك مرحلة لم يرد لها ذكر في سفر الخروج، وهي مرحلة تربيته وتعليمه... فيما ذكرتها النصوص القرآنية" موسى والتوحيد ص49

[17]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص74

[18]- المرجع نفسه، ص11

[19]- المرجع نفسه، ص29

[20]- المرجع نفسه، ص111

[21]- سورة الأعراف، الآيتان 128-129

[22]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص214

[23]- يقول الأستاذ مصطفى بوهندي في كتاب التأثير المسيحي...: "لا بد لقبول أخبار الأمم السالفة من شروط في المتن وفي السند.. فأما المتن، فلا يجوز أن يتعارض مع كتاب الله... ولا مع مقاصد الدين وكلياته، ولا مع سنن الكون والتاريخ والمجتمع والفطرة والمنطق والعقل" ص140

[24]- ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم..". صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها.

[25]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص86

[26]- سورة المائدة، جزء من الآية 15

[27]- سورة آل عمران: الآية 64

https://www.mominoun.com/articles/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-200-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%86%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B3%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-7145