الجمعة، 16 أغسطس 2019

مراجعة "هذا الأندلسي".


لم أجد الرواية بنفس المستوى الفني الذي كنت أتوقعه، خصوصا إذا استحضرنا أن الروائي بنسالم حميش كاتب مرموق وذو تجربة واسعة، كما أن موضوع الرواية "هذا الأندلسي" مهم ومثير، فهو يعالج سيرة "عبد الحق بن سبعين"، الشخصية التاريخية والصوفية التي تجمع بين التعقيد والغموض، أو قل بتعبير لويس ماسنيون "شخصية قلقلة" في تاريخ الإسلام.
ويمكن بيان وجهة نظري المتعلقة بجوانب الضعف النسبي في الرواية في وجهين:
أولا: الجانب اللغوي التعبيري الذي تكتنفه صعوبات متعددة تجعل القارئ لا يرتاح لها، خصوصا إذا علمنا أن الرواية سِفر ضخم تحتاج إلى نفس طويل لقراءتها، فقد شاب اللغة التعبيرية لكاتبنا الكثير من التكلف والقلق في العبارة خصوصا في الفصول الأولى من الرواية، وربما لاحظ القارئ أن لغته تتحسن شيئا فشيئا مع مرور الفصول والمقاطع، ولعل ذلك ناتج في نظري عن أحد سببين:
إما أن الرواية كتبت على فترات متقطعة بحيث أن النفس اللغوي الذي كتب به حميش ليس واحدا بل متعددا بتعدد المراحل التي كتبت فيها الرواية، وإما أن الرجل دلف باب الاستئناس مع شخصية ابن سبعين وتاريخه وحقله المعرفي الصوفي رويدا رويدا.
ثانيا: الطريقة التي عرض الكاتب سيرة ابن سبعين بحيث ركز على الجوانب الحياتية العادية في سيرة الرجل أكثر من محاولة معانقة الجوانب الروحية والفكرية في حياته، والنفوذ إلى تحليل دواخله النفسية، لأن هذه الجوانب الأخيرة في نظري هي التي صنعت شخصية ابن سبعين التاريخية لا مجرد حوادث الحياة اليومية الرتيبة، بالإضافة إلى أن حنكة الروائيين الكبار تكمن بالخصوص في القدرة على تحليل الشخصيات الغامضة التي لا يستطيع عموم الناس سبر دوافعها ولا تفسير مواقفها، لكن شيئا من هذا لم يقع.
وعموما رغم هذه الملاحظات الأولية فإنها لا تقلل من أهمية العمل ولا الجهد البيّن الذي بذله الكاتب الكبير بنسالم حميش، ولا المكانة الرفيعة لهذا العمل، وبخصوص الملاحظات العامة يمكنني أن أسجل ما يلي:
1-محاولة تبسيط نظرية ابن سبعين الصوفية التي أثارت الكثير من المناقشات عبر التاريخ وخصوصا بعض الآراء المنسوبة إليه في وحدة الوجود وقوله بالوحدة المطلقة، أو القول الشائع المنسوب إليه: "لقد حجَّر ابن آمنة واسعا لما قال لا نبي بعدي"، وإن لم يُعرف أين قال الرجل ذلك بالضبط، ولعل غرض بنسالم حميش من هذا التبسيط شيئين:
أولا تقريب الآراء والنظريات السبعينية والبعد بها عن التعقيدات الفلسفية والمجادلات الكلامية خصوصا إذا علمنا أن العمل هو عمل روائي تطغى عليه المسحة الجمالية الفنية قبل الطابع الفلسفي الفكري.
ثانيا محاولة التطبيع وفك الحصار عن نظرية ابن سبعين التي ضُربت عليها عبر التاريخ وذلك من خلال بيان معقوليتها وعدم مصادمتها للمسلمات الدينية.
2-تقديم صورة إنسانية لشخصية صوفية مرموقة وغامضة في آن، فهي مرموقة لأنها من بين أهم الشخصيات الصوفية الإسلامية التي أثارت الكثير من الجدل في التاريخ وعرفت أنصارا ومعارضين على امتداد الزمان، وهي غامضة لأن الكثير من أراء ابن سبعين لم تدرس وتفهم بما فيه الكفاية، هذا بالإضافة إلى النهاية المأساوية الغامضة لحياته، فقد اجتهد الروائي بنسالم حميش في عرضها بطريقة تبعد عنها على الأقل شكوك الانتحار.
ولعل هذه الصورة التي آثر الكاتب أن يقدم بها هذه الشخصية حكمتها أولا الأبعاد الإنسانية التي يكتنزها التصوف الإسلامي الشيء الذي يجعل منه نافذة مهمة ينفتح من خلالها الإسلام على القيم الكونية مثل الحوار والسلام والتعايش والاعتراف بالآخر والإقرار بحقوق المخالفين... ثانيا التركيز على الأبعاد الجمالية لصلة الصوفي بواقعه من خلال:
-العطف على الفقراء والمساكين، فقد أظهر الكاتب ابن سبعين شخصية كثيرة الجود والسخاء ينفعل وجودها بالجود كما هو معروف في مذهب أبي العباس السبتي.
 -إبراز مشاعر الحب والشوق الإنسانيين اللذين يعترانيه ... فقد كان لابن سبعين معشوقات كثيرات سواء قبل سلوك الطريق أو أثناءها، وقد توسعت الرواية في سرد تجاربه المختلفة خصوصا في الأندلس قبل أن يضطر لمغادرتها، هؤلاء المعشوقات المختلفات منهن من كان حبه لهن صادقا، ومنهن من كانت علاقته بهن علاقة عابرة، لهذا يمكن القول عموما أن الرواية حرصت على تقديم علاقة ابن سبعين بالمرأة المعشوقة إما علاقة مادية عابرة أو علاقة حب حقيقية وعميقة خصوصا مع زوجته السبتية التي أخلص لها طول حياته ولازمه طيفها رغم مفارقته لها ثم حزنه على موتها حزنا شديدا. وفي الرواية إشارات كثيرة إلى كون هذا الحب الصادق أتم وأكمل من الحب المادي الخالص خصوصا عندما يكون الحب الصادق عفيفا وعذريا، وقد يفضي بصاحبه إلى الموت كما هو شأن العشاق الكبار أمثال أم ابن سبعين نفسه أو زوجة أخيه ميمونة.
-ببيان مذهب ابن سبعين في التصوف المنفتح على مباهج الحياة المخالف لمنهج الزهاد.  
3-معالجة الكثير من قضايا العصر، والإجابة على الكثير من إشكالاته الفكرية والفقهية والسياسية من خلال الشخصية المحتفى بها في الرواية، عن طريق عرض الكثير من التأويلات الدينية على لسان ابن سبعين، مثل موقفه من تطبيق الحدود التي لا يراها مطلوبة التحقق بالشكل الظاهري الذي يفهمه الفقهاء ولكن باعتبارها وسيلة لمقاصد إن تحققت انتفى معها الحاجة إلى الوسائل.