الثلاثاء، 7 يونيو 2022

العقلانية والحوار قراءة في كتاب سليمان بشير ديان "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي".

 

العقلانية والحوار

قراءة في كتاب سليمان بشير ديان

"دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي".

حفيظ هروس: باحث في الفكر الإسلامي.

البريد الإليكتروني: harroushafis@gmail.com

Reason and Dialogue : Review of

Open to Reason

Muslim Philosophers in Conversation with the Western Tradition

Harrous Hafid.

تقديم

        لا شك أن المسلمين اليوم يعيشون زمنا صعبا، فهم يكابدون على المستوى الداخلي معضلات شتى، كالاستبداد السياسي، والتخلف الاقتصادي، والتأخر في ميادين التربية والتعليم، فضلا عن المناكفات الهوياتية التي تطحن الأخضر واليابس، كما أنهم يواجهون على المستوى الخارجي تحديات كثيرة، كضرورة اللحاق بالركب الحضاري، ومواكبة التقدم الهائل الذي تشهده الإنسانية، وأيضا القدرة على المنافسة في ميادين الصراع المفتوحة قصد الحفاظ على مصالحهم، والدفاع عن حقوقهم.

        ولعل أبرز الحلول التي تقصّدها العقل المسلم الحديث للإجابة على مجمل المعضلات والتحديات السابقة هي محاولة العودة إلى "العصر الذهبي" الذي شهده المسلمون في تاريخهم القديم التماسا لمصادر القوة، وبحثا عن قيم الإحياء والتجديد التي يمكن أن تشكل رافعات نظرية وسلوكية تقود المسلمين للخروج من أتون التخلف والصراع.

        لكن الملحظ الذي يمكن تسجيله بخصوص هذه الأوبة شبه الجماعية للاعتصام بالتراث والتاريخ هو الاختلاف الشديد حول القيم والمبادئ التي يجب إحياؤها دون غيرها، وذلك تبعا للخلفيات المذهبية والفكرية التي ينطلق منها كل تيار أو مفكر على حِدة، لكن عموما يمكن القول أن الصراع تركز على أصلين كبيرين كانت لهما الحظوة دون غيرهما: النص والعقل.

        لكن بالإضافة إلى هذين الأصلين برزت قيم ومبادئ أخرى كانت أقل حضورا منهما مثل قيمة الحوار، وهي قيمة تستحق العناية والاحتفاء لما يمكن أن تُسهم به اليوم في حل المعضلات والتحديات التي تواجه حاضر المسلمين.

1-الكتاب: المضمون والمنهج

        يبدو أن قيمة الحوار هي القيمة التي عوّل عليها المفكر السينغالي سليمان بشير ديان في كتابه "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي"، واختارها لتشكل مع  قيمة العقلانية أساس انفكاك الفكر الإسلامي من عُقُله المكبلة له، والتي تتركز على مستوى المعضلات الذاتية في أحادية الفكر، وإقصاء الآراء المخالفة، ووَسْمها بالكفر والانحراف، وهو ما يؤول إلى نفي كل إمكانية للتعدد والاختلاف، كما أنها تتمثل على مستوى التحديات الموضوعية في الانغلاق على الذات والتاريخ، أو في الإقبال على استهلاك الأفكار الواردة دون ضوابط محددة، وهو ما يفضي إلى استبعاد أية إمكانية للانفتاح الراشد على الآخر.

        فالأطروحة العامة للكتاب تقوم على أساس أن المسلمين بحاجة اليوم إلى الفلسفة من جديد، وأن الفلسفة القادرة على انتشالهم من وهدتهم الحضارية هي الفلسفة القائمة على العقلانية رؤية ومضمونا، والحوار منهجا ومسلكا، والتعددية والانفتاح غاية ومطلبا: التعددية لمواجهة المعضلات الداخلية، والانفتاح الراشد لرأب الصدع في علاقتنا مع الآخر المخالف.

        ورغم أن عنوان الكتاب تَبرز فيه قيمة العقلانية والدعوة إليها، فإنه قد أُضيف إليه عنوان فرعي في الترجمة العربية ليدل على قيمة الحوار، وذلك "للتعبير عن موضوع الكتاب بطريقة أوضح"[1] كما يقول الكاتب نفسه، والحقيقة أن القيمتين معا حاضرتان بقوة في الكتاب، ويمكن النظر إليهما باعتبارهما لا تتحققان إلا معا، وذلك إذا نظرنا إلى الأولى منهما باعتبارها مضمونا ورؤية، والثانية باعتبارها مسلكا ومنهجا، وأن مقصدهما هو الوصول إلى التعددية والانفتاح غاية ومطلبا.

        والكتاب الذي بين أيدينا ترجمه إلى العربية طلعت فاروق محمد استنادا إلى الطبعة الإنجليزية، "وليس إلى الأصل الفرنسي، وذلك وفقا لرغبة المؤلف الذي يرى أن النص الإنجليزي فيه إضافات لم تشتمل عليها النسخة الفرنسية الأولى"[2]، ويمتد الكتاب على عشرة فصول حاول من خلالها المؤلف إعادة قراءة تراث قامات فكرية وفلسفية سامقة من التاريخ الإسلامي القديم والحديث، وذلك على ضوء القيم التي تحدثنا عنها سابقا. فالكاتب لم يعمد إلى مناقشة كل القضايا الفكرية والفلسفية، كما أنه لم يتناول تاريخ الفلسفة بالطريقة المدرسية المعهودة، ولكن تعامل مع هذا التاريخ وتلك الموضوعات بصورة انتقائية، بحيث سلط الضوء على قضايا وتساؤلات بعينها، واستحضر النماذج الفلسفية التي قدّر أنها مناسبة كي تساعده على بحث تلك القضايا والتساؤلات.

        فالكتاب من الناحية المنهجية يندرج ضمن أسلوب الكتابات الانتقائية، التي تفترض مسبقا أهمية قضايا أو تساؤلات محددة، ثمّ تعمل بعد ذلك على البحث عن النماذج الفلسفية، والأنساق الفكرية التي قدمت إجابات مقبولة ومقنعة على تلك التساؤلات، لكن مشكلة هذا النوع من الكتابات هو أنها لا تقدم لنا إلا وجها واحدا للصورة، وهو الوجه المشرق الذي ظهرت فيه قيمة العقلانية رؤية ومضمونا، وقيمة الحوار مسلكا ومنهجا، ولكن ماذا عن الوجه الآخر للصورة؟ والذي يحضر هو الآخر في التاريخ والتراث، كيف يمكننا معالجة الإشكالات التي يطرحها؟ لا أظن أن مجرد السكوت عن هذا الوجه المقابل يقدم حلا لإشكالاته.

        لكن الكتاب على العموم مسكون بهواجس إصلاح الحاضر، إذ لم يكتف المؤلِف باستدعاء النماذج التي يراها صالحة من التاريخ البعيد فقط، بل خصص فصولا مهمة لبعض الإصلاحيين من الزمن الإسلامي الحديث. والملاحظ في رجالات الإصلاح التي عمل الكاتب على استعراض جزء من تجاربها شيئان: أولهما أنها نماذج منتقاة بعناية لخدمة أغراض الكتاب المتمثلة في إبراز قيم العقلانية والحوار، ثانيهما أنها نماذج موزعة على جغرافيا العالم الإسلامي، ولعل مُراد الكاتب من استعراض هذه الجغرافيا الإصلاحية المتسعة هو إنهاء احتكار النماذج العربية للإصلاح، وتقديم نماذج إسلامية أخرى ساهمت بحظ وافر في تعميق الرؤى الإصلاحية في العالم الإسلامي، هذا بالإضافة إلى محاولة إبراز النماذج الهامشية والمغمورة بهدف إنهاء احتكار النماذج الإصلاحية المعروفة، والموجودة دائما في المراكز والحواضر الكبرى.

        أعتقد أن الهمَّ الإصلاحي عند الكاتب ينبع من اعتباره مثال المثقف الملتزم، فرغم المكانة الأكاديمية المرموقة التي يمثلها المفكر السينغالي سليمان بشير ديان اليوم، فهو أستاذ الفلسفة، ومدير برنامج الدكتوراه في قسم اللغة الفرنسية في جامعة كولومبيا في نيويورك، فإنه لم ينسلخ البتة سواء في شبابه أو كهولته عن الاهتمام بقضايا الإصلاح، لهذا فإن عنايته بالفكر والفلسفة الإسلاميتين رغم خلفيته الأكاديمية العلمية والرياضية يرجع إلى الإحساس بمسؤولية ضرورة الدفاع عن "إسلام متنور" كما يقول[3]، وهذا الهم الإصلاحي هو الذي دفعه للاهتمام بفكر الإصلاحيين أمثال الفيلسوف الهندي محمد إقبال، والسياسي والمفكر والشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور، وخصّ كل واحد منهما بكتاب منفرد[4].

2-العقلانية رؤية ومضمونا.

        إذا كانت حركة الرجوع إلى التاريخ الإسلامي وتراثه للخلاص من معضلات الحاضر وتحدياته طغى عليها في البداية، خصوصا مع الحركات الإحيائية السلفية المبكرة، استحضار النص، والوقوف عند إمكانياته، فإن غرض المؤلِف في هذا الكتاب هو لفت الانتباه إلى أهمية قيمة العقلانية في معالجة تلك المعضلات والتحديات، وأيضا تفعيل ما يسمح به العقل من إمكانيات لإثراء الفكر الإسلامي المعاصر بالرؤى والمضامين الثاقبة متى ارتبطت بقيمة الحوار وتآلفت معها.

        نشط الكاتب في العودة إلى الماضي واستقراء وقائعه وأحداثه، والنبش في تراثه بُغية الكشف عن مواقف المسلمين المختلفة من العقل وحدود إعماله، سواء في إجابتهم عن المعضلات الداخلية، أو عند مجابهتهم للتحديات الخارجية، على المستويين معا: الفكر والممارسة.

        ويرى المؤلف أن الأصل في إعمال قيم العقلانية هو التفاعل الأول للعقل المسلم مع القرآن الكريم، فقد اضطر هذا العقل للرجوع إلى كلام الله لاستمداد الإجابات المقنعة عن الإشكالات التي انتهضت أمامه، سواء بفعل الجدل الداخلي بين الفِرق المختلفة حول القضايا العقدية والسياسية، أو بفعل التحديات الخارجية التي واجهته بعد التوسعات الكبرى واحتكاكه بعقائد المخالفين.

        وكانت نتيجة هذه التفاعلات أن "ظهر (علم الكلام) الذي يختص بالنظر العقلي والفلسفي في مثل هذه المسائل"[5]، لكن هذا العلم قوبل بنوع من التوجس من طرف مدرسة النص والأثر التي ترى أن "اتباع السنة لا يكون إلا بالالتزام الحرفي بما ورد عن السلف"[6]. ورغم هذا التحفظ المبدئي فقد تولد عن الاتجاه العقلي تياران كبيران في الحقل الكلامي هما المعتزلة والأشاعرة.  

        ومع أن هذين المذهبين الكبيرين يختلفان عموما بخصوص الموقف من الفلسفة، بحيث يرى الكاتب أن "من المفارقات أن الفلسفة في الإسلام هي ربيبة الروح المعتزلية، بينما تمثل الروح الأشعرية مصدر إلهام لأبلغ صور تحريم الفلسفة"[7]، فإنهما قد اشتركا معا في قضية عقلية مهمة وهي الدفاع عن العقائد الإيمانية بطريق العقل. وإذا كان هذا الطابع العقلي يخف عند الأشاعرة، فليس مرد ذلك إلى موقف معارض للعقل من الأساس، وإنما يرجع إلى نوع من التمرد على التصور العقلاني المجرد للإله "فالمتكلمون الأشاعرة... يريدون أن يكون العقل دليلا في الطريق، الذي يمكن في نهايته أن تتوجه قلوب ضاقت عليها الدنيا، وأرهقتها الحيرة بالدعاء المخلص إلى الله فيتقبلها بقبول حسن"[8].

        هذا بخصوص الشق الكلامي، أما الشق الفلسفي فرغم النكوص الذي عرفه الموقف من الفلسفة مع الأشاعرة، فإن الكاتب حرص على إبراز صورتين مختلفتين لشخصية الغزالي، المتكلم الأشعري، وأشهر المناوئين للفلاسفة في التاريخ الإسلامي. خصص سليمان ديان الفصل الرابع لمناقشة هجوم أبي حامد المعروف على الفلاسفة، واتهامه لهم بالبدعة والكفر "بسبب عقلانيتهم المفرطة"[9]، أو بسبب تعويلهم المطلق على العقل رغم "عدم كفاية العقل ذاته"[10] في الاستدلال في مجال الإلهيات، وقد اعتبر الكاتبُ الغزالي هنا أبرز ممثل لموقف الأشاعرة السلبي من الفلسفة والعقلانية، أما في الفصل العاشر فأبرزَ الغزاليَّ في صورة الفيلسوف المنفتح القائل بإمكانية التعدد والاختلاف، وذلك من خلال تقديمه تأويلا جديدا لحديث "الفرقة الناجية" في كتابه "فيصل التفرقة" استنادا إلى رواية مختلفة للحديث ورد فيها أن الفِرق الثلاث والسبعين كلها في الجنة إلا واحدة في النار، وهي فرقة الزنادقة[11].

        بعد ذلك سلّط الكاتب الضوء على قامات فلسفية أخرى، كان لها مواقف إيجابية من العقل كابن سينا وابن طفيل وابن رشد، ولعل أهم جوانب العقلانية التي حاول الكاتب استثمارها في تراث هؤلاء الفلاسفة هي محاولتهم تقديم تأويلات عقلية مقبولة للنص الديني، فقد كانت مهمة الفيلسوف هي "تقديم تفسير موافق للعقل ومفاهيمه"[12]، وهو ما طبقه ابن سينا في مقالة منسوبة إليه خصصها لرحلة المعراج النبوية، حيث قدّم تفسيرات رمزية معقولة لأحداث المعراج النبوي، تجعل منه رحلة عقلية "روحية"، ذات أبعاد وظيفية تميل بها نحو التجربة الصوفية العملية، مما يجعل المعراجَ "رحلة عبر الملكات الإنسانية نحو إدراك الطبيعة البشرية"[13].

        أما ابن رشد الذي خصص له الكاتب الفصل السادس فقد قدّم تأويلا عقلانيا لمفهوم "الراسخين في العلم" الوارد في سورة "ال عمران"، حيث اعتبر أن الراسخين في العلم هم الفلاسفة، منطلقا من الوقوف على كلمة ربنا بدل كلمة الله في الآية، مما يجعل الراسخين في العلم مشتركين في معرفة المتشابهات[14]، و"يؤكد ابن رشد أن الروح البرهانية لدى الفلاسفة هي التي تجعلهم (راسخين في العلم)، وتمكنهم تأويل الخطاب الإلهي"[15]، لأنهم وحدهم القادرون على التوفيق بين منطوق النص ومقتضى العقل بفضل "العقلية البرهانية" التي يمتلكونها.

        بعد هذا العرض الموجز لأراء الكاتب بخصوص أهمية استحضار العقلانية باعتبارها مضمونا للخطاب الإسلامي التراثي من خلال إبرازه آليتين عقليتين هما: الدفاع عن العقائد الإيمانية بطريق العقل، وتقديم تأويلات عقلية مقبولة للنص الديني، يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

1-لا يمكن الفصل مطلقا -عند المؤلف- بين هذا الحفر البحثي عن الآثار العقلانية في التراث وبين هموم الحاضر المتجلية في معضلاته وتحدياته، ومن هنا أهمية إحياء هذه القيم والآليات العقلية للإجابة على المشكلات التي تجابه المسلمين اليوم، وبناء على ذلك يدافع الكاتب على أهمية إحياء الروح المعتزلية المعتدة بالفلسفة والعقل، والتي أخذت تظهر من جديد عند بعض مفكري الإصلاح مثل محمد عبده وأمير علي، وهو سرُّ اهتمام الكاتب بهؤلاء الإصلاحيين دون غيرهم.

        ويظهر هذا الربط بالواقع أيضا من خلال استدعاء المواقف الفلسفية العقلانية التراثية لحلّ بعض الإشكالات المعاصرة، ومن ذلك إعادة قراءة المؤلِف لتراث ابن طفيل الفلسفي على ضوء "درس الفلسفة البيئية"، فيُلفت الانتباه في قصة "حي ابن يقظان" إلى الجانب البيئي، حيث توصل هذا الأخير بتأملاته الشخصية إلى وجود واجبات ضرورية نحو العالم المحسوس. وقد عمل الكاتب على ربط هذه الواجبات البيئية بمفهوم الخلافة ليستنتج أن "الإنسان حين يدرك تماما ماهيته وما ينبغي أن يكون عليه، يمكن أن يعي مسؤوليته كخليفة في الأرض، قيّم عليها وضامن لسلامتها، وليس ك(سيد ومالك)"[16]  كما هو الشأن في العقلانية الديكارتية.

2-شنّع الكاتب على الأشاعرة موقفهم السلبي إزاء الفلسفة، وذلك على الأقل في موضعين: الأول عندما اعتبر أن "الروح الأشعرية" مصادمة للفلسفة، بل اعتبر هذه الروح المصدر الأهم لصور تحريم الفلسفة في التاريخ الإسلامي[17]. الثاني عندما اعتبر أن موقف الغزالي المتشدد تجاه الفلسفة إنما كان تعبيرا عن الروح الأشعرية وموقفها السلبي من الفلسفة.

        لكن هذه الصورة السلبية العامة لا تعكس حقيقة الموقف الأشعري من الفلسفة، وحق هذا الموقف أن يحظى بنوع من التفصيل، فالنقد الأشعري للفلسفة إنما توجه أساسا لموقف الفلاسفة من القضايا السمعية "الإلهيات"، وهو ما يُفصح عنه موقف الغزالي من القضايا الثلاث المشهورة التي كفّر فيها الفلاسفة، أما المجالات الفلسفية الأخرى كالطبيعيات والمنطق فقد كان الموقف الأشعري منها إيجابيا على العموم، فالغزالي تبنى بوضوح المنطق بوصفه مدخلا ضروريا لكل العلوم، كما أن متأخري الأشاعرة كالرازي والآمدي والتفتازاني مزجوا مباحث علم الكلام بالفلسفة، وتوسلوا بالكثير من أدواتها ومناهجها في تقرير القضايا الكلامية.

        لهذا فإن الموقف الأشعري لم يكن بالضرورة ضد العقل والعقلانية، بل كان ضد نوع خاص من العقلانية، وهي العقلانية المجردة على طريقة الفلسفة المشائية في تقريرها للقضايا الغيبية، حيث يقصر العقل عن الإدراك والاستدلال، وقد أقرّ الكاتب بذلك حينما أكد أن الأشاعرة يريدون العقل دليلا في الطريق لا مصدرا أصيلا لإثبات الحقائق الغيبية.

3-اقتصار الكاتب على بحث البواعث العقلية في مجالي الكلام والفلسفة، يجعل دائرة المعقول في التراث الإسلامي ضيقة، وإلا فإن ثمة إمكانات زاخرة في مجالات تراثية أخرى حبلى بالاختيارات العقلية، مثل علم أصول الفقه الذي يمكن توظيف آلياته العقلية في الاستنباط والاستقراء والتقعيد لإيجاد حلول مبتكرة لمشكلات الواقع. ولو أن الكاتب وسّع مفهوم العقل ليشمل العقل التداولي الحجاجي، ولم يقتصر فقط على العقل البرهاني المجرد لأمكنه الحديث عن طراز آخر من العقلانية هي العقلانية التداولية الحجاجية، ولَفَتح بذلك آفاقا واسعة لاستثمار الإعمال التراثي للعقل من أجل إغناء المباحث العقلانية ومسلكياتها في الحاضر.

3-الحوار منهجا ومسلكا.

        أعتقد أن القيمة الرئيسة التي حاول الكتاب بعثها من جديد هي قيمة الحوار، ولم أؤخر الحديث عنها وأجعلها بعد قيمة العقلانية إلا من حيث التصنيف، حيث أرى أن الكاتب يجعل العقلانية في محل الرؤية التي ينبغي أن توجه الفكر الإسلامي، بينما يجعل الحوار في مقام المنهج الذي ينبغي على هذا الفكر أن يسلكه.

        ويمكن أن نلحظ أن قيمة الحوار تظهر بين تضاعيف الكتاب في مستويين متكاملين هما:

أولا: الحوار الداخلي: وهو الحوار الذي تمّ بين المسلمين أنفسهم، والذي تجلي في أشكال متعددة، مثل الحوار الكلامي الذي دار بين الفِرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرة، وقد تأسس على أرضية الخلاف حول الإشكالات الكلامية والعقدية. ورغم وجود بعض نَزعات الهيمنة وفرض الرأي التي نتأت أحيانا، فإن ثراء الإنتاج الفكري في المجال الكلامي، وغنى أدبيات الجدل والمناظرة تؤكد رسوخ قيمة الحوار في التاريخ والتراث الإسلاميين.

        وإلى جانب الحوار الكلامي نجد الحوار الفلسفي أيضا، وكان من أشكاله البارزة النقد المنهجي للأفكار والمواقف بين الفلاسفة المسلمين، ومن ذلك محاورات ابن رشد الشهيرة مع أفكار الغزالي ومواقفه المعادية للفلسفة، حيث عمل على إبداع موقف متسامح من الفلسفة، كما حاول الاستناد إلى بعض الأصول الشرعية قصد إيجاد مدخل لاستنباتها في البيئة الإسلامية.

        ولعل أبرز النماذج الحوارية التي ساقها المؤلِف المناظرة المعروفة التي جرت بين متى بن يونس المدافع عن المنطق اليوناني، والممثل لتيار الفلسفة في البيئة الإسلامية، وأبي سعيد السيرافي المدافع عن اللغة والنحو العربيين، والممثل للاتجاه "التداولي الحجاجي"، والمناظرة بالإضافة إلى كونها تعكس غنى الاتجاهات المعرفية في تراثنا الفكري، فإنها تبرز كذلك أن المنهج الأغلبي الذي كان يسلكه الناس من أجل الدفاع عن أفكارهم هو الحوار.

ثانيا: الحوار الخارجي: ويتمثل في حوار المسلمين مع الأفكار الواردة عليهم، وقد تجلى هذا الحوار قديما في التفاعل مع الفكر والفلسفة اليونانيتين، حيث شكلت الترجمة جسرا مهما لهذا الحوار منذ رؤيا المأمون لأرسطو التي قرر على إثرها إنشاء بيت الحكمة وترجمة كتب الفلسفة.

        أما في العصر الحديث فقد تجلى في الحوار مع الأفكار والفلسفات التي اكتشفها المسلمون عند الغرب بعد "صدمة الانفتاح"، حيث سعى الكثير من المصلحين للإفادة من هذا الأفكار والفلسفات بما يصلح للإجابة على المعضلات والتحديات التي يواجهونها، ومن المحاورات الطريفة التي ساقها الكاتب، الحوار الذي جرى بين إرنست رينان والشيخ جمال الدين الأفغاني، فبعد المحاضرة الشهيرة التي ألقاها رينان حول موضوع "الإسلام والعلم" سنة 1883، والتي خلص فيها إلى أن "الإسلام في جوهره عدو للعلم والفكر"[18]، ردّ عليه الأفغاني -الذي صادف وجوده آنذاك في باريس- رأيه هذا، معتبرا أن "الإصلاح... يستند في حركته إلى الفهم الحقيقي لروح الدين"[19]، لكن المهم في رأي الكاتب لم يكن محتوى الحوار بين الرجلين بقدر ما كان اعتماد الأفغاني الحوار مسلكا ومنهجا من أجل دحض أفكار رينان، بعيدا عن مسلك "الاحتجاج الذي ربما يتوقعه المرء، والذي كان تلامذته يتمنونه"[20].

        وقبل أن أختم هذه الفقرة أبدي الملاحظات التالية:

1-لقد اعتبر الكاتب في معرض حديثه عن أثر الفلسفة اليونانية أن الفكر الإسلامي تطور من خلال احتكاكه أساسا مع الفكر الأرسطي، وهذا التقرير فيه نوع غفلة عن الوجهين المتقابلين لصورة الحوار كما بيّنته سابقا، فإذا كان الحوار الخارجي مع الفكر والفلسفة الواردين على المسلمين من الخارج قد شكل أحد أوجه هذه الصورة، فإن الحوار الداخلي للفكر الإسلامي هو الوجه الآخر للصورة، بل يمكن اعتباره الوجه الأصلي، وذلك بحكم أنه انطلق منذ فترة جد مبكرة، وأن باعثه الرئيس هو المشكلات والتساؤلات العقدية التي نتجت عن الصراعات الداخلية.

2-اعتبر الكاتبُ السيرافيَ في حواره مع متى بن يونس ممثلا لفكر الانغلاق، والحق أنه يمكن النظر إلى المسألة من زاوية أخرى، وهي زاوية ثراء النظريات المعرفية التراثية التي لم تقتصر على النقل والترجمة فحسب، بل ساهمت بنصيب وافر في الإبداع والتجديد، ويمكن القول بأن نظرياتها الإبداعية في مجال المعرفة هي التي كان لها الامتداد والتأثير في الفكر الإنساني، وهو ما أثبته المؤلف نفسه من خلال المقارنات التي عقدها بين نظرية السيرافي حول المنطق اللغوي وصورتها الحداثية في طرح إميل بنفنيست، بحيث يتفق الرجلان بطريقة تدعو إلى الدهشة على أن المقولات المنطقية التي "يُدّعى أنها كونية هي في حقيقتها (منقولة عن مقولات لغوية)"[21].

4-التعددية والانفتاح غاية ومطلبا.

         بقي لنا أن نبين في الأخير أن المؤلف من خلال تركيزه على قيمة العقلانية باعتبارها رؤية ومضمونا، وقيمة الحوار باعتبارها منهجا ومسلكا، كانت تحكمه مقاصد محددة، وهي قدرة هاتين القيمتين على تقديم الإجابات المناسبة لما سبق ذكره في البداية من معضلات وتحديات، وكذلك لأنهما تفضيان إلى تحقيق قيمتين أخريَين لا تقلان أهمية عنهما، وهما التعددية والانفتاح.

        والقيمتان عند الكاتب تكدان تنطبقان في المعنى، كما أنهما خلاصة معنى التفسلف في الإسلام، يقول في بيان معنى ذلك: "إن الانفتاح يعني عدم الوقوف عند حد، وعدم التقيد بقيد، كما يعني أيضا، التعدد، ومن ثمّ فإن تبني التفكير الذي يميل نحو الحركة والانفتاح، والذي يرى فيه مؤلف هذا الكتاب معنى (التفلسف في الإسلام)، يكافئ التفكير ذا النزعة التعددية..."[22].

        لكنني أعتقد أنه يمكن تقديم فهم آخر للمسألة، يتلاءم مع ما سبق ذكره من تأويلات في هذه المراجعة، وهو أن قيمة التعدد قد تكون أنسب لمعالجة معضلات الداخل المتمثلة في صلاحيتها أكثر من غيرها من القيم لإدارة الاختلاف الفكري بين المسلمين أنفسهم، مثلما أن قيمة الانفتاح كفيلة بالإجابة على تحديات الخارج المتمثلة في جدارة هذه القيمة في إدارة التدافع الحضاري الراشد مع الآخر، فتكون بذلك القيمتان منطبقتين في تقديم الحلول المناسبة، لكنهما مختلفتان من حيث مناسبة كل واحدة منهما لمستوى معين.

الخاتمة.

        أفضت بنا هذه المراجعة البسيطة للكتاب إلى نتيجتين:

        تتمثل الأولى منهما في تأكيد الأطروحة العامة التي افترضنا أن الكتاب يقوم عليها، والقائلة بأن المسلمين بحاجة اليوم إلى الفلسفة من جديد، وأن الفلسفة القادرة على انتشالهم من وهدتهم الحضارية هي الفلسفة القائمة على العقلانية رؤية ومضمونا، والحوار منهجا ومسلكا، والتعددية والانفتاح غاية ومطلبا: التعددية لمعالجة المعضلات الداخلية، والانفتاح الراشد لرأب الصدع في علاقتنا مع الآخر المخالف.

        أما الثانية، فرغم أن الكاتب توفق إلى حد كبير في المرافعة عن أطروحته من خلال القضايا والنماذج التي ساقها، فإن ثمة ملمحين أشير إليهما: الأول يتعلق بالمنهج، ذلك أن المنهج الانتقائي الذي اعتمده الكاتب لا يقدم لنا إلا وجها واحدا للصورة، وهو الوجه المشرق من تاريخنا، بينما يتغاضى عن الوجه الآخر الذي غابت عنه هذه القيم، والذي يجب أن يُبحث هو الآخر خصوصا من حيث الأسباب والسياقات، لأنني لا أظن أن مجرد السكوت عنه يقدم حلا لإشكالاته. الثاني يخص المضمون، فقد آثر الكاتب حصر مفهوم العقلانية في صورة العقلانية البرهانية، مما أدى إلى تضييق غنى النظريات المعرفية التراثية المرتبطة بالعقل، فقد كان من شأن انفتاح الكاتب على نماذج أخرى من العقلانيات كالعقلانية التداولية الحجاجية في علم أصول الفقه أن يؤدي إلى إثراء الفكر الإسلامي المعاصر بنماذج معرفية متعددة ومنفتحة.



[1] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي، ترجمة: طلعت فاروق محمد، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2020، ص11.

[2] -المرجع السابق، مقدمة المترجم ص9.

[3] -من حوار الكاتب مع مجلة "الفلسفة" الفرنسية.

Philosophie, N56, Janvier 2012.

[4] -خصص الكاتب لهما أيضا كتابا مشتركا.

سليمان بشير ديان. برغسون ما بعد الكولونيالي: الفلسفة الحيوية لدى ليبّولد سنغور ومحمد إقبال، ترجمة: فريد الزاهي، المغرب، دار توبقال، ط1 2018.

[5] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، مقدمة المترجم، ص24.

[6] -المرجع السابق، ص25.

[7] -المرجع السابق، ص28-29.

[8] -المرجع السابق، ص28

[9] -المرجع السابق، ص13.

[10] -المرجع السابق، ص61.

[11] -أبو حامد الغزالي. فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، قرأه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: محمود بيجو، ط1، 1993. ص58.

[12] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، ص45.

[13] -المرجع السابق، ص53.

[14] -المرجع السابق، ص77.

[15] -المرجع السابق، ص82.

[16] -المرجع السابق، ص13.

[17] -المرجع السابق، ص28-29.

[18] -المرجع السابق، ص90.

[19] -المرجع السابق، ص99.

[20] -المرجع السابق، ص94.

[21] -المرجع السابق، ص38.

[22] -المرجع السابق، ص127.