الثلاثاء، 7 يونيو 2022

العقلانية والحوار قراءة في كتاب سليمان بشير ديان "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي".

 

العقلانية والحوار

قراءة في كتاب سليمان بشير ديان

"دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي".

حفيظ هروس: باحث في الفكر الإسلامي.

البريد الإليكتروني: harroushafis@gmail.com

Reason and Dialogue : Review of

Open to Reason

Muslim Philosophers in Conversation with the Western Tradition

Harrous Hafid.

تقديم

        لا شك أن المسلمين اليوم يعيشون زمنا صعبا، فهم يكابدون على المستوى الداخلي معضلات شتى، كالاستبداد السياسي، والتخلف الاقتصادي، والتأخر في ميادين التربية والتعليم، فضلا عن المناكفات الهوياتية التي تطحن الأخضر واليابس، كما أنهم يواجهون على المستوى الخارجي تحديات كثيرة، كضرورة اللحاق بالركب الحضاري، ومواكبة التقدم الهائل الذي تشهده الإنسانية، وأيضا القدرة على المنافسة في ميادين الصراع المفتوحة قصد الحفاظ على مصالحهم، والدفاع عن حقوقهم.

        ولعل أبرز الحلول التي تقصّدها العقل المسلم الحديث للإجابة على مجمل المعضلات والتحديات السابقة هي محاولة العودة إلى "العصر الذهبي" الذي شهده المسلمون في تاريخهم القديم التماسا لمصادر القوة، وبحثا عن قيم الإحياء والتجديد التي يمكن أن تشكل رافعات نظرية وسلوكية تقود المسلمين للخروج من أتون التخلف والصراع.

        لكن الملحظ الذي يمكن تسجيله بخصوص هذه الأوبة شبه الجماعية للاعتصام بالتراث والتاريخ هو الاختلاف الشديد حول القيم والمبادئ التي يجب إحياؤها دون غيرها، وذلك تبعا للخلفيات المذهبية والفكرية التي ينطلق منها كل تيار أو مفكر على حِدة، لكن عموما يمكن القول أن الصراع تركز على أصلين كبيرين كانت لهما الحظوة دون غيرهما: النص والعقل.

        لكن بالإضافة إلى هذين الأصلين برزت قيم ومبادئ أخرى كانت أقل حضورا منهما مثل قيمة الحوار، وهي قيمة تستحق العناية والاحتفاء لما يمكن أن تُسهم به اليوم في حل المعضلات والتحديات التي تواجه حاضر المسلمين.

1-الكتاب: المضمون والمنهج

        يبدو أن قيمة الحوار هي القيمة التي عوّل عليها المفكر السينغالي سليمان بشير ديان في كتابه "دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي"، واختارها لتشكل مع  قيمة العقلانية أساس انفكاك الفكر الإسلامي من عُقُله المكبلة له، والتي تتركز على مستوى المعضلات الذاتية في أحادية الفكر، وإقصاء الآراء المخالفة، ووَسْمها بالكفر والانحراف، وهو ما يؤول إلى نفي كل إمكانية للتعدد والاختلاف، كما أنها تتمثل على مستوى التحديات الموضوعية في الانغلاق على الذات والتاريخ، أو في الإقبال على استهلاك الأفكار الواردة دون ضوابط محددة، وهو ما يفضي إلى استبعاد أية إمكانية للانفتاح الراشد على الآخر.

        فالأطروحة العامة للكتاب تقوم على أساس أن المسلمين بحاجة اليوم إلى الفلسفة من جديد، وأن الفلسفة القادرة على انتشالهم من وهدتهم الحضارية هي الفلسفة القائمة على العقلانية رؤية ومضمونا، والحوار منهجا ومسلكا، والتعددية والانفتاح غاية ومطلبا: التعددية لمواجهة المعضلات الداخلية، والانفتاح الراشد لرأب الصدع في علاقتنا مع الآخر المخالف.

        ورغم أن عنوان الكتاب تَبرز فيه قيمة العقلانية والدعوة إليها، فإنه قد أُضيف إليه عنوان فرعي في الترجمة العربية ليدل على قيمة الحوار، وذلك "للتعبير عن موضوع الكتاب بطريقة أوضح"[1] كما يقول الكاتب نفسه، والحقيقة أن القيمتين معا حاضرتان بقوة في الكتاب، ويمكن النظر إليهما باعتبارهما لا تتحققان إلا معا، وذلك إذا نظرنا إلى الأولى منهما باعتبارها مضمونا ورؤية، والثانية باعتبارها مسلكا ومنهجا، وأن مقصدهما هو الوصول إلى التعددية والانفتاح غاية ومطلبا.

        والكتاب الذي بين أيدينا ترجمه إلى العربية طلعت فاروق محمد استنادا إلى الطبعة الإنجليزية، "وليس إلى الأصل الفرنسي، وذلك وفقا لرغبة المؤلف الذي يرى أن النص الإنجليزي فيه إضافات لم تشتمل عليها النسخة الفرنسية الأولى"[2]، ويمتد الكتاب على عشرة فصول حاول من خلالها المؤلف إعادة قراءة تراث قامات فكرية وفلسفية سامقة من التاريخ الإسلامي القديم والحديث، وذلك على ضوء القيم التي تحدثنا عنها سابقا. فالكاتب لم يعمد إلى مناقشة كل القضايا الفكرية والفلسفية، كما أنه لم يتناول تاريخ الفلسفة بالطريقة المدرسية المعهودة، ولكن تعامل مع هذا التاريخ وتلك الموضوعات بصورة انتقائية، بحيث سلط الضوء على قضايا وتساؤلات بعينها، واستحضر النماذج الفلسفية التي قدّر أنها مناسبة كي تساعده على بحث تلك القضايا والتساؤلات.

        فالكتاب من الناحية المنهجية يندرج ضمن أسلوب الكتابات الانتقائية، التي تفترض مسبقا أهمية قضايا أو تساؤلات محددة، ثمّ تعمل بعد ذلك على البحث عن النماذج الفلسفية، والأنساق الفكرية التي قدمت إجابات مقبولة ومقنعة على تلك التساؤلات، لكن مشكلة هذا النوع من الكتابات هو أنها لا تقدم لنا إلا وجها واحدا للصورة، وهو الوجه المشرق الذي ظهرت فيه قيمة العقلانية رؤية ومضمونا، وقيمة الحوار مسلكا ومنهجا، ولكن ماذا عن الوجه الآخر للصورة؟ والذي يحضر هو الآخر في التاريخ والتراث، كيف يمكننا معالجة الإشكالات التي يطرحها؟ لا أظن أن مجرد السكوت عن هذا الوجه المقابل يقدم حلا لإشكالاته.

        لكن الكتاب على العموم مسكون بهواجس إصلاح الحاضر، إذ لم يكتف المؤلِف باستدعاء النماذج التي يراها صالحة من التاريخ البعيد فقط، بل خصص فصولا مهمة لبعض الإصلاحيين من الزمن الإسلامي الحديث. والملاحظ في رجالات الإصلاح التي عمل الكاتب على استعراض جزء من تجاربها شيئان: أولهما أنها نماذج منتقاة بعناية لخدمة أغراض الكتاب المتمثلة في إبراز قيم العقلانية والحوار، ثانيهما أنها نماذج موزعة على جغرافيا العالم الإسلامي، ولعل مُراد الكاتب من استعراض هذه الجغرافيا الإصلاحية المتسعة هو إنهاء احتكار النماذج العربية للإصلاح، وتقديم نماذج إسلامية أخرى ساهمت بحظ وافر في تعميق الرؤى الإصلاحية في العالم الإسلامي، هذا بالإضافة إلى محاولة إبراز النماذج الهامشية والمغمورة بهدف إنهاء احتكار النماذج الإصلاحية المعروفة، والموجودة دائما في المراكز والحواضر الكبرى.

        أعتقد أن الهمَّ الإصلاحي عند الكاتب ينبع من اعتباره مثال المثقف الملتزم، فرغم المكانة الأكاديمية المرموقة التي يمثلها المفكر السينغالي سليمان بشير ديان اليوم، فهو أستاذ الفلسفة، ومدير برنامج الدكتوراه في قسم اللغة الفرنسية في جامعة كولومبيا في نيويورك، فإنه لم ينسلخ البتة سواء في شبابه أو كهولته عن الاهتمام بقضايا الإصلاح، لهذا فإن عنايته بالفكر والفلسفة الإسلاميتين رغم خلفيته الأكاديمية العلمية والرياضية يرجع إلى الإحساس بمسؤولية ضرورة الدفاع عن "إسلام متنور" كما يقول[3]، وهذا الهم الإصلاحي هو الذي دفعه للاهتمام بفكر الإصلاحيين أمثال الفيلسوف الهندي محمد إقبال، والسياسي والمفكر والشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور، وخصّ كل واحد منهما بكتاب منفرد[4].

2-العقلانية رؤية ومضمونا.

        إذا كانت حركة الرجوع إلى التاريخ الإسلامي وتراثه للخلاص من معضلات الحاضر وتحدياته طغى عليها في البداية، خصوصا مع الحركات الإحيائية السلفية المبكرة، استحضار النص، والوقوف عند إمكانياته، فإن غرض المؤلِف في هذا الكتاب هو لفت الانتباه إلى أهمية قيمة العقلانية في معالجة تلك المعضلات والتحديات، وأيضا تفعيل ما يسمح به العقل من إمكانيات لإثراء الفكر الإسلامي المعاصر بالرؤى والمضامين الثاقبة متى ارتبطت بقيمة الحوار وتآلفت معها.

        نشط الكاتب في العودة إلى الماضي واستقراء وقائعه وأحداثه، والنبش في تراثه بُغية الكشف عن مواقف المسلمين المختلفة من العقل وحدود إعماله، سواء في إجابتهم عن المعضلات الداخلية، أو عند مجابهتهم للتحديات الخارجية، على المستويين معا: الفكر والممارسة.

        ويرى المؤلف أن الأصل في إعمال قيم العقلانية هو التفاعل الأول للعقل المسلم مع القرآن الكريم، فقد اضطر هذا العقل للرجوع إلى كلام الله لاستمداد الإجابات المقنعة عن الإشكالات التي انتهضت أمامه، سواء بفعل الجدل الداخلي بين الفِرق المختلفة حول القضايا العقدية والسياسية، أو بفعل التحديات الخارجية التي واجهته بعد التوسعات الكبرى واحتكاكه بعقائد المخالفين.

        وكانت نتيجة هذه التفاعلات أن "ظهر (علم الكلام) الذي يختص بالنظر العقلي والفلسفي في مثل هذه المسائل"[5]، لكن هذا العلم قوبل بنوع من التوجس من طرف مدرسة النص والأثر التي ترى أن "اتباع السنة لا يكون إلا بالالتزام الحرفي بما ورد عن السلف"[6]. ورغم هذا التحفظ المبدئي فقد تولد عن الاتجاه العقلي تياران كبيران في الحقل الكلامي هما المعتزلة والأشاعرة.  

        ومع أن هذين المذهبين الكبيرين يختلفان عموما بخصوص الموقف من الفلسفة، بحيث يرى الكاتب أن "من المفارقات أن الفلسفة في الإسلام هي ربيبة الروح المعتزلية، بينما تمثل الروح الأشعرية مصدر إلهام لأبلغ صور تحريم الفلسفة"[7]، فإنهما قد اشتركا معا في قضية عقلية مهمة وهي الدفاع عن العقائد الإيمانية بطريق العقل. وإذا كان هذا الطابع العقلي يخف عند الأشاعرة، فليس مرد ذلك إلى موقف معارض للعقل من الأساس، وإنما يرجع إلى نوع من التمرد على التصور العقلاني المجرد للإله "فالمتكلمون الأشاعرة... يريدون أن يكون العقل دليلا في الطريق، الذي يمكن في نهايته أن تتوجه قلوب ضاقت عليها الدنيا، وأرهقتها الحيرة بالدعاء المخلص إلى الله فيتقبلها بقبول حسن"[8].

        هذا بخصوص الشق الكلامي، أما الشق الفلسفي فرغم النكوص الذي عرفه الموقف من الفلسفة مع الأشاعرة، فإن الكاتب حرص على إبراز صورتين مختلفتين لشخصية الغزالي، المتكلم الأشعري، وأشهر المناوئين للفلاسفة في التاريخ الإسلامي. خصص سليمان ديان الفصل الرابع لمناقشة هجوم أبي حامد المعروف على الفلاسفة، واتهامه لهم بالبدعة والكفر "بسبب عقلانيتهم المفرطة"[9]، أو بسبب تعويلهم المطلق على العقل رغم "عدم كفاية العقل ذاته"[10] في الاستدلال في مجال الإلهيات، وقد اعتبر الكاتبُ الغزالي هنا أبرز ممثل لموقف الأشاعرة السلبي من الفلسفة والعقلانية، أما في الفصل العاشر فأبرزَ الغزاليَّ في صورة الفيلسوف المنفتح القائل بإمكانية التعدد والاختلاف، وذلك من خلال تقديمه تأويلا جديدا لحديث "الفرقة الناجية" في كتابه "فيصل التفرقة" استنادا إلى رواية مختلفة للحديث ورد فيها أن الفِرق الثلاث والسبعين كلها في الجنة إلا واحدة في النار، وهي فرقة الزنادقة[11].

        بعد ذلك سلّط الكاتب الضوء على قامات فلسفية أخرى، كان لها مواقف إيجابية من العقل كابن سينا وابن طفيل وابن رشد، ولعل أهم جوانب العقلانية التي حاول الكاتب استثمارها في تراث هؤلاء الفلاسفة هي محاولتهم تقديم تأويلات عقلية مقبولة للنص الديني، فقد كانت مهمة الفيلسوف هي "تقديم تفسير موافق للعقل ومفاهيمه"[12]، وهو ما طبقه ابن سينا في مقالة منسوبة إليه خصصها لرحلة المعراج النبوية، حيث قدّم تفسيرات رمزية معقولة لأحداث المعراج النبوي، تجعل منه رحلة عقلية "روحية"، ذات أبعاد وظيفية تميل بها نحو التجربة الصوفية العملية، مما يجعل المعراجَ "رحلة عبر الملكات الإنسانية نحو إدراك الطبيعة البشرية"[13].

        أما ابن رشد الذي خصص له الكاتب الفصل السادس فقد قدّم تأويلا عقلانيا لمفهوم "الراسخين في العلم" الوارد في سورة "ال عمران"، حيث اعتبر أن الراسخين في العلم هم الفلاسفة، منطلقا من الوقوف على كلمة ربنا بدل كلمة الله في الآية، مما يجعل الراسخين في العلم مشتركين في معرفة المتشابهات[14]، و"يؤكد ابن رشد أن الروح البرهانية لدى الفلاسفة هي التي تجعلهم (راسخين في العلم)، وتمكنهم تأويل الخطاب الإلهي"[15]، لأنهم وحدهم القادرون على التوفيق بين منطوق النص ومقتضى العقل بفضل "العقلية البرهانية" التي يمتلكونها.

        بعد هذا العرض الموجز لأراء الكاتب بخصوص أهمية استحضار العقلانية باعتبارها مضمونا للخطاب الإسلامي التراثي من خلال إبرازه آليتين عقليتين هما: الدفاع عن العقائد الإيمانية بطريق العقل، وتقديم تأويلات عقلية مقبولة للنص الديني، يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

1-لا يمكن الفصل مطلقا -عند المؤلف- بين هذا الحفر البحثي عن الآثار العقلانية في التراث وبين هموم الحاضر المتجلية في معضلاته وتحدياته، ومن هنا أهمية إحياء هذه القيم والآليات العقلية للإجابة على المشكلات التي تجابه المسلمين اليوم، وبناء على ذلك يدافع الكاتب على أهمية إحياء الروح المعتزلية المعتدة بالفلسفة والعقل، والتي أخذت تظهر من جديد عند بعض مفكري الإصلاح مثل محمد عبده وأمير علي، وهو سرُّ اهتمام الكاتب بهؤلاء الإصلاحيين دون غيرهم.

        ويظهر هذا الربط بالواقع أيضا من خلال استدعاء المواقف الفلسفية العقلانية التراثية لحلّ بعض الإشكالات المعاصرة، ومن ذلك إعادة قراءة المؤلِف لتراث ابن طفيل الفلسفي على ضوء "درس الفلسفة البيئية"، فيُلفت الانتباه في قصة "حي ابن يقظان" إلى الجانب البيئي، حيث توصل هذا الأخير بتأملاته الشخصية إلى وجود واجبات ضرورية نحو العالم المحسوس. وقد عمل الكاتب على ربط هذه الواجبات البيئية بمفهوم الخلافة ليستنتج أن "الإنسان حين يدرك تماما ماهيته وما ينبغي أن يكون عليه، يمكن أن يعي مسؤوليته كخليفة في الأرض، قيّم عليها وضامن لسلامتها، وليس ك(سيد ومالك)"[16]  كما هو الشأن في العقلانية الديكارتية.

2-شنّع الكاتب على الأشاعرة موقفهم السلبي إزاء الفلسفة، وذلك على الأقل في موضعين: الأول عندما اعتبر أن "الروح الأشعرية" مصادمة للفلسفة، بل اعتبر هذه الروح المصدر الأهم لصور تحريم الفلسفة في التاريخ الإسلامي[17]. الثاني عندما اعتبر أن موقف الغزالي المتشدد تجاه الفلسفة إنما كان تعبيرا عن الروح الأشعرية وموقفها السلبي من الفلسفة.

        لكن هذه الصورة السلبية العامة لا تعكس حقيقة الموقف الأشعري من الفلسفة، وحق هذا الموقف أن يحظى بنوع من التفصيل، فالنقد الأشعري للفلسفة إنما توجه أساسا لموقف الفلاسفة من القضايا السمعية "الإلهيات"، وهو ما يُفصح عنه موقف الغزالي من القضايا الثلاث المشهورة التي كفّر فيها الفلاسفة، أما المجالات الفلسفية الأخرى كالطبيعيات والمنطق فقد كان الموقف الأشعري منها إيجابيا على العموم، فالغزالي تبنى بوضوح المنطق بوصفه مدخلا ضروريا لكل العلوم، كما أن متأخري الأشاعرة كالرازي والآمدي والتفتازاني مزجوا مباحث علم الكلام بالفلسفة، وتوسلوا بالكثير من أدواتها ومناهجها في تقرير القضايا الكلامية.

        لهذا فإن الموقف الأشعري لم يكن بالضرورة ضد العقل والعقلانية، بل كان ضد نوع خاص من العقلانية، وهي العقلانية المجردة على طريقة الفلسفة المشائية في تقريرها للقضايا الغيبية، حيث يقصر العقل عن الإدراك والاستدلال، وقد أقرّ الكاتب بذلك حينما أكد أن الأشاعرة يريدون العقل دليلا في الطريق لا مصدرا أصيلا لإثبات الحقائق الغيبية.

3-اقتصار الكاتب على بحث البواعث العقلية في مجالي الكلام والفلسفة، يجعل دائرة المعقول في التراث الإسلامي ضيقة، وإلا فإن ثمة إمكانات زاخرة في مجالات تراثية أخرى حبلى بالاختيارات العقلية، مثل علم أصول الفقه الذي يمكن توظيف آلياته العقلية في الاستنباط والاستقراء والتقعيد لإيجاد حلول مبتكرة لمشكلات الواقع. ولو أن الكاتب وسّع مفهوم العقل ليشمل العقل التداولي الحجاجي، ولم يقتصر فقط على العقل البرهاني المجرد لأمكنه الحديث عن طراز آخر من العقلانية هي العقلانية التداولية الحجاجية، ولَفَتح بذلك آفاقا واسعة لاستثمار الإعمال التراثي للعقل من أجل إغناء المباحث العقلانية ومسلكياتها في الحاضر.

3-الحوار منهجا ومسلكا.

        أعتقد أن القيمة الرئيسة التي حاول الكتاب بعثها من جديد هي قيمة الحوار، ولم أؤخر الحديث عنها وأجعلها بعد قيمة العقلانية إلا من حيث التصنيف، حيث أرى أن الكاتب يجعل العقلانية في محل الرؤية التي ينبغي أن توجه الفكر الإسلامي، بينما يجعل الحوار في مقام المنهج الذي ينبغي على هذا الفكر أن يسلكه.

        ويمكن أن نلحظ أن قيمة الحوار تظهر بين تضاعيف الكتاب في مستويين متكاملين هما:

أولا: الحوار الداخلي: وهو الحوار الذي تمّ بين المسلمين أنفسهم، والذي تجلي في أشكال متعددة، مثل الحوار الكلامي الذي دار بين الفِرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرة، وقد تأسس على أرضية الخلاف حول الإشكالات الكلامية والعقدية. ورغم وجود بعض نَزعات الهيمنة وفرض الرأي التي نتأت أحيانا، فإن ثراء الإنتاج الفكري في المجال الكلامي، وغنى أدبيات الجدل والمناظرة تؤكد رسوخ قيمة الحوار في التاريخ والتراث الإسلاميين.

        وإلى جانب الحوار الكلامي نجد الحوار الفلسفي أيضا، وكان من أشكاله البارزة النقد المنهجي للأفكار والمواقف بين الفلاسفة المسلمين، ومن ذلك محاورات ابن رشد الشهيرة مع أفكار الغزالي ومواقفه المعادية للفلسفة، حيث عمل على إبداع موقف متسامح من الفلسفة، كما حاول الاستناد إلى بعض الأصول الشرعية قصد إيجاد مدخل لاستنباتها في البيئة الإسلامية.

        ولعل أبرز النماذج الحوارية التي ساقها المؤلِف المناظرة المعروفة التي جرت بين متى بن يونس المدافع عن المنطق اليوناني، والممثل لتيار الفلسفة في البيئة الإسلامية، وأبي سعيد السيرافي المدافع عن اللغة والنحو العربيين، والممثل للاتجاه "التداولي الحجاجي"، والمناظرة بالإضافة إلى كونها تعكس غنى الاتجاهات المعرفية في تراثنا الفكري، فإنها تبرز كذلك أن المنهج الأغلبي الذي كان يسلكه الناس من أجل الدفاع عن أفكارهم هو الحوار.

ثانيا: الحوار الخارجي: ويتمثل في حوار المسلمين مع الأفكار الواردة عليهم، وقد تجلى هذا الحوار قديما في التفاعل مع الفكر والفلسفة اليونانيتين، حيث شكلت الترجمة جسرا مهما لهذا الحوار منذ رؤيا المأمون لأرسطو التي قرر على إثرها إنشاء بيت الحكمة وترجمة كتب الفلسفة.

        أما في العصر الحديث فقد تجلى في الحوار مع الأفكار والفلسفات التي اكتشفها المسلمون عند الغرب بعد "صدمة الانفتاح"، حيث سعى الكثير من المصلحين للإفادة من هذا الأفكار والفلسفات بما يصلح للإجابة على المعضلات والتحديات التي يواجهونها، ومن المحاورات الطريفة التي ساقها الكاتب، الحوار الذي جرى بين إرنست رينان والشيخ جمال الدين الأفغاني، فبعد المحاضرة الشهيرة التي ألقاها رينان حول موضوع "الإسلام والعلم" سنة 1883، والتي خلص فيها إلى أن "الإسلام في جوهره عدو للعلم والفكر"[18]، ردّ عليه الأفغاني -الذي صادف وجوده آنذاك في باريس- رأيه هذا، معتبرا أن "الإصلاح... يستند في حركته إلى الفهم الحقيقي لروح الدين"[19]، لكن المهم في رأي الكاتب لم يكن محتوى الحوار بين الرجلين بقدر ما كان اعتماد الأفغاني الحوار مسلكا ومنهجا من أجل دحض أفكار رينان، بعيدا عن مسلك "الاحتجاج الذي ربما يتوقعه المرء، والذي كان تلامذته يتمنونه"[20].

        وقبل أن أختم هذه الفقرة أبدي الملاحظات التالية:

1-لقد اعتبر الكاتب في معرض حديثه عن أثر الفلسفة اليونانية أن الفكر الإسلامي تطور من خلال احتكاكه أساسا مع الفكر الأرسطي، وهذا التقرير فيه نوع غفلة عن الوجهين المتقابلين لصورة الحوار كما بيّنته سابقا، فإذا كان الحوار الخارجي مع الفكر والفلسفة الواردين على المسلمين من الخارج قد شكل أحد أوجه هذه الصورة، فإن الحوار الداخلي للفكر الإسلامي هو الوجه الآخر للصورة، بل يمكن اعتباره الوجه الأصلي، وذلك بحكم أنه انطلق منذ فترة جد مبكرة، وأن باعثه الرئيس هو المشكلات والتساؤلات العقدية التي نتجت عن الصراعات الداخلية.

2-اعتبر الكاتبُ السيرافيَ في حواره مع متى بن يونس ممثلا لفكر الانغلاق، والحق أنه يمكن النظر إلى المسألة من زاوية أخرى، وهي زاوية ثراء النظريات المعرفية التراثية التي لم تقتصر على النقل والترجمة فحسب، بل ساهمت بنصيب وافر في الإبداع والتجديد، ويمكن القول بأن نظرياتها الإبداعية في مجال المعرفة هي التي كان لها الامتداد والتأثير في الفكر الإنساني، وهو ما أثبته المؤلف نفسه من خلال المقارنات التي عقدها بين نظرية السيرافي حول المنطق اللغوي وصورتها الحداثية في طرح إميل بنفنيست، بحيث يتفق الرجلان بطريقة تدعو إلى الدهشة على أن المقولات المنطقية التي "يُدّعى أنها كونية هي في حقيقتها (منقولة عن مقولات لغوية)"[21].

4-التعددية والانفتاح غاية ومطلبا.

         بقي لنا أن نبين في الأخير أن المؤلف من خلال تركيزه على قيمة العقلانية باعتبارها رؤية ومضمونا، وقيمة الحوار باعتبارها منهجا ومسلكا، كانت تحكمه مقاصد محددة، وهي قدرة هاتين القيمتين على تقديم الإجابات المناسبة لما سبق ذكره في البداية من معضلات وتحديات، وكذلك لأنهما تفضيان إلى تحقيق قيمتين أخريَين لا تقلان أهمية عنهما، وهما التعددية والانفتاح.

        والقيمتان عند الكاتب تكدان تنطبقان في المعنى، كما أنهما خلاصة معنى التفسلف في الإسلام، يقول في بيان معنى ذلك: "إن الانفتاح يعني عدم الوقوف عند حد، وعدم التقيد بقيد، كما يعني أيضا، التعدد، ومن ثمّ فإن تبني التفكير الذي يميل نحو الحركة والانفتاح، والذي يرى فيه مؤلف هذا الكتاب معنى (التفلسف في الإسلام)، يكافئ التفكير ذا النزعة التعددية..."[22].

        لكنني أعتقد أنه يمكن تقديم فهم آخر للمسألة، يتلاءم مع ما سبق ذكره من تأويلات في هذه المراجعة، وهو أن قيمة التعدد قد تكون أنسب لمعالجة معضلات الداخل المتمثلة في صلاحيتها أكثر من غيرها من القيم لإدارة الاختلاف الفكري بين المسلمين أنفسهم، مثلما أن قيمة الانفتاح كفيلة بالإجابة على تحديات الخارج المتمثلة في جدارة هذه القيمة في إدارة التدافع الحضاري الراشد مع الآخر، فتكون بذلك القيمتان منطبقتين في تقديم الحلول المناسبة، لكنهما مختلفتان من حيث مناسبة كل واحدة منهما لمستوى معين.

الخاتمة.

        أفضت بنا هذه المراجعة البسيطة للكتاب إلى نتيجتين:

        تتمثل الأولى منهما في تأكيد الأطروحة العامة التي افترضنا أن الكتاب يقوم عليها، والقائلة بأن المسلمين بحاجة اليوم إلى الفلسفة من جديد، وأن الفلسفة القادرة على انتشالهم من وهدتهم الحضارية هي الفلسفة القائمة على العقلانية رؤية ومضمونا، والحوار منهجا ومسلكا، والتعددية والانفتاح غاية ومطلبا: التعددية لمعالجة المعضلات الداخلية، والانفتاح الراشد لرأب الصدع في علاقتنا مع الآخر المخالف.

        أما الثانية، فرغم أن الكاتب توفق إلى حد كبير في المرافعة عن أطروحته من خلال القضايا والنماذج التي ساقها، فإن ثمة ملمحين أشير إليهما: الأول يتعلق بالمنهج، ذلك أن المنهج الانتقائي الذي اعتمده الكاتب لا يقدم لنا إلا وجها واحدا للصورة، وهو الوجه المشرق من تاريخنا، بينما يتغاضى عن الوجه الآخر الذي غابت عنه هذه القيم، والذي يجب أن يُبحث هو الآخر خصوصا من حيث الأسباب والسياقات، لأنني لا أظن أن مجرد السكوت عنه يقدم حلا لإشكالاته. الثاني يخص المضمون، فقد آثر الكاتب حصر مفهوم العقلانية في صورة العقلانية البرهانية، مما أدى إلى تضييق غنى النظريات المعرفية التراثية المرتبطة بالعقل، فقد كان من شأن انفتاح الكاتب على نماذج أخرى من العقلانيات كالعقلانية التداولية الحجاجية في علم أصول الفقه أن يؤدي إلى إثراء الفكر الإسلامي المعاصر بنماذج معرفية متعددة ومنفتحة.



[1] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي، ترجمة: طلعت فاروق محمد، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2020، ص11.

[2] -المرجع السابق، مقدمة المترجم ص9.

[3] -من حوار الكاتب مع مجلة "الفلسفة" الفرنسية.

Philosophie, N56, Janvier 2012.

[4] -خصص الكاتب لهما أيضا كتابا مشتركا.

سليمان بشير ديان. برغسون ما بعد الكولونيالي: الفلسفة الحيوية لدى ليبّولد سنغور ومحمد إقبال، ترجمة: فريد الزاهي، المغرب، دار توبقال، ط1 2018.

[5] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، مقدمة المترجم، ص24.

[6] -المرجع السابق، ص25.

[7] -المرجع السابق، ص28-29.

[8] -المرجع السابق، ص28

[9] -المرجع السابق، ص13.

[10] -المرجع السابق، ص61.

[11] -أبو حامد الغزالي. فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، قرأه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: محمود بيجو، ط1، 1993. ص58.

[12] -سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، ص45.

[13] -المرجع السابق، ص53.

[14] -المرجع السابق، ص77.

[15] -المرجع السابق، ص82.

[16] -المرجع السابق، ص13.

[17] -المرجع السابق، ص28-29.

[18] -المرجع السابق، ص90.

[19] -المرجع السابق، ص99.

[20] -المرجع السابق، ص94.

[21] -المرجع السابق، ص38.

[22] -المرجع السابق، ص127.

الجمعة، 23 أكتوبر 2020

قراءة في كتاب "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج"

قراءة في كتاب "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج"

تقديم:

هناك موقفان متضادان في التوجه متفقان في النتيجة والمآل، فيما يتعلق بقضية علاقة القرآن الكريم بالكتب المقدسة السابقة: العهدين القديم والجديد، وهذان الموقفان هما:

الموقف الأول: وتمثله العديد من الدراسات الغربية، وخصوصا تلك الدراسات المتأثرة بالرؤية الاستشراقية العامة القائمة على أساس الفصل الجوهري بين الأديان، والقائلة بأن الروح العامة التي تحكم الدين المسيحي وكتابه المقدس ليست هي ذاتها التي تحكم الدين الإسلامي وكتابه، ومن ثمّ يروِّجون لفكرة أساس في أطروحاتهم، وهي أن الإسلام والقرآن ليسا إلا نسخة مزيفة لما ورد في العهدين القديم والجديد، ويفترضون بناء على ذلك وجود أحد أمرين:

أ- وجود نسخة مسيحية ويهودية للقرآن مطمورة في ثناياه يمكن الكشف عنها عن طريق إعمال أدوات النقد الفيلولوجي من خلال المقارنات اللغوية، أو آليات النقد الكوديكولوجي بمقارنة النسخ القديمة للمصاحف بالمصحف المتداول اليوم، ومن ثمَّ يزعمون أن هذه النسخة الأصلية المفترضة قد تمّ إدخال العديد من التعديلات عليها بوجود الإسلام الإمبراطوري فيما بعد النشأة المبكرة للإسلام.

ب- وجود مُعلِمين مفترَضين قاموا بإملاء القرآن المبكر على النبي محمد، وكانوا في ذلك وسطاء محتملين بين الكتب المقدسة السابقة وبين القرآن.

يقول مؤلف الكتاب الذي نروم تقديمه في هذه الصفحات الأستاذ مصطفى بوهندي عن هذا الموقف الذي "شاع عند أهل الكتاب والدارسين الغربيين الذين لم يروا في هذا القرآن إلا نسخة عربية للكتاب المقدس جمعها محمد مما سمعه من أهل الكتاب... أثناء أسفاره التجارية..."[1].

الموقف الثاني ويمثله "الاعتراض الشائع لدى المسلمين... ضد هذه الكتب وضد التعامل معها، بوصفها كتبا محرّفة قد أبطلتها شريعة محمد وقرآنه ونسختها"[2]، ولعل هذا الموقف قد بدأ مبكرا لأسباب خاصة بالتأسيس متمثلا في الروايات المنسوبة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه التي نهى فيها عن الاطلاع على الصحف المقدسة في زمانه، فقد رُوي أنه رأى عمر بن الخطاب وفي يده صحيفة من التوراة، فغضب فقال: "أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني"[3]. ثم جاءت المواقف الفقهية بعد ذلك لتزيد الأمر تأكيدا، حيث ميّز الفقهاء في قراءة هذه الكتب بين مواقف مختلفة، فحظروا ذلك على العامي، وأجازوا قراءتها للعالم ولكن بشرط تفنيدها والرد على أصحابها[4].

بينما الصحيح حسب الأستاذ بوهندي: "أن رسالة محمد جاءت لتصديقها وتأكيد ما فيها من نور وهدى"[5]، وليس لنفيها نفيا تاما، ومنع قراءتها والاستفادة منها.

والموقفان المشار إليهما، رغم أنهما متعارضان من حيث الشكل باعتبار أنهما ينطلقان من خلفيات متضادة، فإنهما من حيث الجوهر يشتركان في نفس المآل، وهو نفي كل واحد منهما للآخر، فثمة إما نفي للقرآن وأصالته من جهة، وإما نفي للكتب المقدسة السابقة، وإمكانية الاطلاع عليها والاستفادة منها من جهة مقابلة.

لكن الأستاذ بوهندي في كتابه الذي بين أيدينا "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج" حاول تصحيح هذا الوضع عن طريق اجتراح موقف معتدل ومختلف يقوم على فكرة أساس ذات جناحين هما:

- إمكانية الاستفادة مما ورد في الكتب المقدسة بعهديها القديم والجديد، مما ما تزال روح النبوة ونور الوحي حاضرين فيها.

- إعمال النقد القرآني لهذه الكتب فيما ثبت تحريفه، مع بيان الإضافات القرآنية التي أغنت الأحداث التاريخية والحقائق الدينية الواردة في هذه الكتب.

وتتأسس هذه الفكرة على اعتقاد مزدوج مفاده، أن الكتب المقدسة السابقة، وإن تعرضت للتحريف والتزوير في الجملة، فإنها ما تزال تحتفظ بالكثير من نورانية الوحي وهَدي النبوة.

وعليه، فإن النتيجة التي يمكن التوصل إليها من خلال هذا الموقف تتمثل في شيئين:

أولا: تأكيد الأصل الإلهي للقرآن، وذلك من خلال إثبات الإضافات الكثيرة التي قدمها مما لا ذكر في هذه الكتب السابقة، وذلك باعتبار أن القرآن هو حلقة في مسيرة الأنبياء، حيث لم تختلف تلاوته في جوهرها عن تلاوتهم من حيث الدور النقدي والاسترجاعي الذي مارسوه هم أيضا على من سبقهم[6].

ثانيا- إثبات صحة أصل التوراة، وأنها ما تزال تحتفظ بروحها الأصلي، رغم ما تعرضت له من "أصناف التأثير التاريخي والاجتماعي والفكري والمذهبي والسياسي"[7]، فقد جعلت الرحلةُ التدبرية الكاتبَ من خلال عمله في هذا الكتاب يدرك "أن أسفار الكتاب المقدس لا تزال تحمل نور وهدى الوحي وأسس ومبادئ التوحيد التي أنزلها الله على رسله وأنبيائه، وأنها لا تزال تمثل مصدرا أساسيا للمعرفة والإلهام والوحي"[8] مصداقا لقوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[9].

ومن ثمّ، فإن "ما ذكره القرآن من تحريف وزيادة ونقصان وخلط ونسيان وتوظيف وكتمان، إنما يتعلق بأصحاب هذه الكتب الذين هم ليسوا سواء؛ فمنهم الصادقون والمتقون والمؤمنون ومنهم غير ذلك ممن يحرّفون الكلم عن مواضعه ويشترون به ثمنا قليلا ويكتمون الحق وهم يعلمون"[10].

1- تعريف مقتضب بالكتاب وسياقه:

صدر الكتاب الأخير للأستاذ مصطفى بوهندي "موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج" سنة 2018، عن دار الساقي في 287 صفحة، وقد ذكر فيه المؤلف 208 إضافة قرآنية مقسمة على ثمانية عشر فصلا[11]، ويعتبر هذا الكتاب الحلقة الثانية في سلسلة "الإضافات النوعية القرآنية" التي خصصها الكاتب لبحث مقارِن بين القرآن الكريم وأسفار العهد القديم بخصوص مواضع وقصص ونصوص مشتركة بينهما، وقد كان الجزء الأول من هذه السلسلة صدر عن نفس الدار و"مركز أديان للبحث والترجمة" سنة 2011 بعنوان "الإضافة النوعية القرآنية: مراجعة نقدية في سفر التكوين".

والأستاذ مصطفى بوهندي متخصص في تاريخ الأديان ومقارنتها، فهو أستاذ تاريخ الأديان ومقارنة الأديان بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وكذلك مدير مجموعة من مراكز الأبحاث المهتمة بهذا الحقل العلمي الدقيق مثل "مركز مراجعات للدراسات والأبحاث"، ويمتلك الرجل مشروعا كبيرا مؤلفا من عدة حلقات، خصص كل كتاب أو حلقة للمقارنة بين القرآن وأحد أسفار التوراة الخمسة، وقد أشار بوضوح إلى ذلك عند بيانه لسبب إغفاله لبعض المحطات المهمة في قصة موسى التي عالجها القرآن، مثل قصة البقرة الصفراء في هذا الكتاب بأنها لم ترد في سفر الخروج، وأنه سيعمل على معالجتها عند مقارنة القرآن مع الأسفار الباقية، يقول: "لقد خصصنا هذه المواضيع جميعا وغيرها بالمراجعة والدرس، وبيان الإضافات النوعية القرآنية عليها في كتب مقبلة خصصنا كل واحد منها لسفر من الأسفار الخمسة من الكتاب المقدس بالمنهجية نفسها المتبعة في هذا الكتاب"[12].

ثم إن هذا المشروع نفسه يندرج ضمن مشروع أوسع للرجل اعتنى فيه بمعالجة وبحث الكثير من القضايا في الدراسات الإسلامية على ضوء المقارنة مع التلاوات الكتابية السابقة؛ حيث تتبع الآثار المحتملة لهذه التلاوات على الفكر والعلوم الإسلامية، هذا المشروع الذي بدأه منذ مدة، فقد كانت رسالته للدكتوراه حول موضوع التأثيرات المحتملة للعقائد والأفكار المسيحية في أقوال المفسرين وكتب التفسير، والتي نشرها بعنوان "التأثير المسيحي في تفسير القرآن" سنة 2004[13].

ومما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه بخصوص كون كتاب "الإضافات القرآنية..." هو حلقة ضمن مشروع قول المؤلف نفسه: "يعد هذا الكتاب ثاني أعمال سلسلة الإضافة القرآنية النوعية، خصصناه لبيان ما أضافه القرآن الكريم على السفر الثاني من أسفار العهد القديم، من تصديقات ومراجعات وبيانات نوعية"[14].

فالفكرة الأساس التي يقوم عليها الكتاب والمشروع برمته هو بيان الإضافات النوعية التي قدمها القرآن على أسفار التوراة الخمسة.

فما معنى الإضافة القرآنية؟

وما هي أهم أنواعها؟

وما هو الغرض من إيرادها؟

وما هو المنهج الذي اعتمده المؤلف في هذا الكتاب؟

وما هي أبرز الاستشكالات التي يمكن طرحها بخصوص كل من الإضافات والمنهج؟

2- الإضافات القرآنية وأنواعها

تَعني الإضافة في اللغة الميل ومنه جاءت المعاني الأخرى مثل الزيادة والضم، وقد وظّف الكاتب الإضافة في كتابه بمعنى الزيادة عموما، وهو معنى مقبول إذا ما استحضرنا أن القرآن يورد الكثير من الزيادات المتمثلة في أحداث وقضايا سكتت عنها التوراة، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن المؤلف يجنح في مواضع كثيرة إلى التوسع في معنى الإضافة لتشمل أنواعا وضروبا أخرى غير الزيادة، وهو ما سأحاول رفع اللثام عنه هنا قبل الانتقال إلى مناقشته في ذلك.

يقول المؤلف في معرض تعليقه على الإضافات التي أوردها القرآن على السرد المتعلق بقصة موسى خلال ميلاده وطفولته وشبابه: "جاءت هذه الإضافات القرآنية متنوعة:

- بعضها مُصدق ومؤكد؛

- وبعضها مُراجع ومُصحّح، على مستوى المعاني والمفاهيم ووصف الأحداث والأشياء والملابسات؛

- وبعضها ناف ومُلغى؛

- كما أن العديد منها صفح القرآن عن ذكر ما ورد في التلاوة السابقة، وكان في صفحه ذاك، إما مهملا له لقلة أهميته، وإما ملغيا له لانتفاء صحته"[15].

هذا ما ذكره المؤلف صراحة من الإضافات، لكن يمكننا زيادة إضافات أخرى من خلال استقراء عمله في الكتاب، منها:

- التفردات القرآنية التي لم يرد لها أصل في التلاوة الكتابية[16].

- التفاصيل الوافية المتعلقة بما أكده القرآن وصدّقه من الأحداث الأصلية التي وردت فقط عبارة عن عناوين كبرى في الكتاب المقدس.

- الترميم القرآني للكثير من الأحداث عن طريق "ردّ النصوص الكتابية إلى سياقها وجعلها أكثر انسجاما"[17]، وهو نوع من أنواع المراجعة والتصحيح، لكنه أرفعها باعتبار الدقة المفترضة في كشف زيف الإضافات التفسيرية غير المنسجمة والمقحمة في النص الأصلي وردها إلى سياقها الطبيعي.

وقبل التعليق على هذه الإضافات، يجمل بنا أن نبيّن القصود المختلفة للمؤلف الكامنة وراء إبرازه لهذه الإضافات القرآنية بأنواعها المختلفة، ولعل أهمها:

أ- "استرجاع الأبعاد الرسالية والقيم الإنسانية والأدوار التاريخية والدينية المتركزة على التوحيد، التي أداها موسى في تاريخ الأديان عموما، وتاريخ بني إسرائيل على الأخص"[18]، خصوصا إذا استحضرنا عنوان الكتاب "موسى والتوحيد". ورغم أنه يحيل مباشرة على عمل مشهور يحمل العنوان نفسه لسيجموند فرويد، فإنه لا تجمع بينهما أية صلات في نظري ما عدا العنوان، وذلك لوجود اختلافات جذرية بين العملين، سواء من حيث المقاصد والغايات أو الحقل المعرفي المشتغل عليه أو الأدوات المعرفية المتوسل بها في البحث والنظر.

ب- إضفاء الأبعاد النفسية والاجتماعية على قصة موسى.

ج- التنبيه على القيم السلوكية والأخلاقية الكامنة في هذه القصة.

د- إبراز فلسفة قصة موسى وإدراجها "في إطار سنن الله التاريخية والاجتماعية الثابتة"[19].

بعد هذا الاستطراد الخفيف، نعود مرة أخرى إلى معنى الإضافة وأنواعها، وذلك أن الملاحظة الرئيسة التي يمكننا مناقشتها هو ذلك التوسع الكبير للكاتب في معنى الإضافة بحيث منحها أبعادا كثيرة ووظفها بطرق شتى الشيء الذي يجعلنا نستشكل بعض تلك الأبعاد والتوظيفات وذلك بالنظر إلى معنى الإضافة في اللغة، ومن بين هذه الاستشكالات التي يمكن سوقها:

أولا: اعتبار التصديق والتأكيد إضافة

بعض الإضافات التي سجلها الكاتب بهذا الاعتبار ذكرتها التوراة كذلك بنفس الطريقة، وهو ما اعترف به الكاتب في أكثر من موضع واعتبر ذلك تصديقا وتأكيدا من القرآن لما ورد في الذكر الكتابي.

لكن الأمر بهذه الصورة يطرح إشكالا مركبا:

أ- فمن جهة أولى، فإن الأمر بهذا الشكل لا إضافة فيه بمعنى الزيادة، بل هو مجرد تصديق وتأكيد، الشيء الذي يطرح علامة استفهام على اعتبار مجرد التصديقات القرآنية إضافات، اللهم إلا إذا كان هدف الكاتب من اعتبار ذلك إضافة ليس فقط ذكر التفصيلات المتعلقة بقصة موسى بقدر ما هو جمع هذه التفاصيل في إطار فلسفي عام، لكن الملاحظ أن الكاتب لم يُطرٍّد هذا المنحى من العمل في جميع كتابه، ولو أنه قام بذلك لكان أجدى من مجرد تتبع السرد التاريخي للأحداث، ومن بين القضايا الفلسفية الكبرى التي كان بالإمكان مناقشتها بنَفَس مقارَني نذكر قضايا التوحيد والنبوة والمعجزة والسنن التاريخية والاجتماعية والقيم الأخلاقية وفلسفة التشريع... وغيرها.

ب- ومن جهة مقابلة نجد إشكالا آخر، وهو المتعلق بالزيادات الواردة في التوراة الخاصة بقصة موسى، والتي لم ترد في القرآن، رغم أنه صدّقها في الجملة، وذلك مثل التفاصيل المتعلقة بواقع الاضطهاد الذي تعرض له الشعب الإسرائيلي واستعرضه سفر الخروج بشكل مستفيض خصوصا في الإصحاح الخامس[20]، بينما اكتفى القرآن بتصديق جوانبه العامة مثل قوله تعالى: "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)"[21].

والأمر هنا لا يتعلق بالتفاصيل التي سكت عنها القرآن سكوتا مقصودا لعدم موافقته عليها مثل أحكام الكهنوت "باعتبارها أُضيفت إلى أحكام الشريعة من طرف الكهنة"[22]، ولا حتى بالتفاصيل التي قام القرآن بمراجعتها، لأنها تتناقض مع الحقائق التاريخية والدينية، بل تتعلق أساسا بالزيادات الواردة في التوراة مما لا ذكر له في القرآن، لهذا قد تكون القاعدة الأنسب في نظري للتعامل مع ما سكت عنه القرآن مما هو من هذا القبيل كالتالي:

- إذا كانت تلك الزيادات متناقضة مع القرآن أو العقل أو الحس أو الوقائع التاريخية الثابتة أو سنن التاريخ وقوانينه أو مقاصد الأخلاق، فلا شك أنه ينبغي ردها، وقد ذكر الكاتب نفسه جملة من القواعد العامة في نقد متون التلاوات الكتابية في كتابه "التأثير المسيحي..."[23]، وساعتئذ فلا بأس من اعتبار سكوت القرآن تصحيحا وإضافة، باعتبار الكتب السابقة هي التي يجب أن تُقرأ في ضوء القرآن لا العكس.

- أما إذا لم تكن تلك الزيادات متناقضة مع ما تمّ ذكره من القواعد، فيمكن اعتبارها مما لا يُصدّق ولا يُكذّب كما قال العلماء قديما[24]، بل لا يوجد مانع من اعتبارها إضافات، وقد تفطن الكاتب لذلك في بعض المواضع واعتبرها بالفعل إضافات، ففي الإضافة رقم 60 المتعلقة بمجال الواد المقدس وبعد أن أورد التفاصيل المتعلقة بهذا المجال في كل من القرآن وسفر الخروج قال: "وكل منهما ركّز على جانب من الحدث وقدّم إضافات نوعية تتعلق بالمجال والرسالة..."[25]. ولو كانت تلك الزيادات خاطئة لما سكت عنها القرآن، فعفوه الوارد في الآية "ويعفو عن كثير"[26] يجب أن يُحمل على ما أخفوه مما لا يتعارض مع القرآن مثل إخفائهم لبيان صفات النبي الذي بشَّر به موسى، وقد خصص له الكاتب فصلا كاملا هو الفصل السابع عشر: "النبي الآتي".

ولهذا، فإن الإشكال الذي يبقى عالقا بعد كل هذا البيان هو مشكلة عنوان الكتاب الذي قَصَر فيه المؤلف الإضافات على القرآن حصرا مع أنه يعترف صراحة بوجود معنى الإضافات في التلاوة الكتابية كذلك.

ثانيا: اعتبار سكوت القرآن "عفو القرآن" في بعض المواضع إضافات، مشكل من جهات

أ- اعتبار السكوت إضافة مشكل من حيث إن الإضافة في اللغة تعني الزيادة، بينما واقع الحال هنا يكمن في عدم ذكر القرآن لبعض التفاصيل الواردة في التوراة، فإذا قبلنا الإضافة بالمعنى الإيجابي الذي تفيده في دلالتها اللغوية فكيف يمكننا قبولها بالمعنى السلبي الذي لا تفيده؟

ب- لم يشترط القرآن على نفسه بخصوص مسألة القصص التي وردت فيه ذكر كل ما يتعلق بها، حتى يتسنى لنا أن نحكم على كل ما سكت عنه بأنه يرفضه ولا يُقره.

والخلاصات التي يمكن الركون إليها بخصوص مسألة الإضافات باستحضار الملاحظات السابقة نلخصها في شيئين:

- التوسع الكبير في معنى الإضافة، حيث استعملها المؤلف بمعنى الزيادة وبمعنى التصديق والتأكيد وبمعنى المراجعة والتصحيح وبمعنى النفي والإلغاء... وهو ما لا يستقيم مع المعنى اللغوي لكلمة إضافة.

- أن المؤلف لم يقدم تعريفا دقيقا لمفهوم الإضافة، حيث يَسهل معه على القارئ تتبع عمله في استقصاء الإضافات بناء على المعنى الذي قدمه، بل اكتفى فقط بذكر بعض أنواعها بين الفينة والأخرى.

3- إضاءات حول المنهج

اعتمد الكاتب المنهج المقارن عموما في دراسته، فهو يعمل كما أوضحنا ذلك على بيان الإضافات النوعية القرآنية التي قدمها القرآن على واحد من أسفار الكتاب المقدس ألا وهو سفر الخروج من خلال المقارنة بينهما بخصوص قصة موسى، ولكن رغم ذلك يمكن الدفع بالملاحظات التالية:

أولا: لم يفصح الكاتب عن تفاصيل المنهج العام الذي سلكه في كتابه، حيث يحتاج القارئ أن يتلمس تلك التفاصيل في مواضع كثيرة ومتفرقة، وربما كان المؤلف يحتاج إلى كتابة مقدمة لمشروعه تكون عبارة عن "بيان أدبي" يلخص فيه الخطوط العامة لمشروعه مثل: المنهج - الأهداف - الإشكالية - تحديد المفاهيم الأساسية خصوصا مفهوم الإضافة...

ثانيا: عوّل الكاتب في تفاصيل المقارنات التي عقدها بين القرآن وسفر الخروج بخصوص قصة موسى على المتابعة التاريخية لأحداث القصة، مع محاولة تبّصر الأسس الفلسفية التي تحكم القصة أحيانا، لكنني أعتقد كما أشرت إلى ذلك سابقا أن المنهج القائم على بحث القضايا العامة في درس الدين المقارَن قد يكون أفيد، وذلك لقدرة هذا المسلك على تحقيق نتيجتين مهمتين هما:

أ- تقريب القارئ والمتخصص على حد سواء من الفروقات العامة التي تحكم الرؤى الدينية والأسس العقدية والتشريعية لكل دين ورسالة.

ب- التبصير بالتوافقات والقواسم المشتركة التي يمكن البناء عليها في أية حوارات أو لقاءات مرتقبة ومطلوبة بين أتباع الديانات المختلفة قصد التأسيس العلمي والتأصيل الكتابي للعيش المشترك.

الخاتمة

إن العمل المهم الذي قام به الأستاذ مصطفى بوهندي في هذا الكتاب وفي مشروعه الكبير بصفة عامة، يمكن حصر أهميته المعرفية والحضارية على الأقل في شيئين:

- أولا: المساهمة في محاولات التقريب بين الأديان التوحيدية الإنسانية الكبرى عبر خلق ثقافة الحوار على أساس قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[27]، وتتمثل الكلمة السواء في الإقرار بعقيدة التوحيد، وبحث المشتركات العامة التي جاءت بإقرارها هذه الكتب المقدسة والتي ما تزال مبثوثة فيها، ومن ذلك مثلا الوصايا التي أخذها الله على بني إسرائيل في الميثاق والتي درسها المؤلف بعناية في الفصل الثامن عشر مثل عبادة الله والبر بالوالدين ولا تقتل ولا تزني ولا تسرق والإحسان إلى القريب واليتيم والمساكين...

ثانيا- محاولة توجيه علم الأديان المقارَن للسعي لبيان القواسم المشتركة بين الأديان التي تُقرِّب ولا تباعد، وإخراجه من الطابع الأكاديمي الصرف الذي يشتغل على ما هو علمي وينسى ما هو إنساني وحضاري.

[1]- بوهندي، مصطفى، (2019). موسى والتوحيد: أكثر من 200 إضافة نوعية قرآنية على سفر الخروج. (الطبعة الأولى). بيروت: دار الساقي. ص283

[2]- المرجع نفسه ص281

[3]- أخرجه أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر ين عبد الله. وقد أورد الحافظ ابن حجر العسقلاني الطرق المختلفة للحديث وناقشها في فتح الباري بشرح صحيح، طبعة دار المعرفة 13/525

[4]- يقول ابن حجر العسقلاني بخصوص هذا التمييز بعض أن حكى رأي بدر الدين الزركشي القائل بالتحريم المطلق إجماعا بنظرها وكتابتها "والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويَصِر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم..." فتح الباري 13/525-526

انظر مواقف المذاهب الفقهية المحرمة للنظر في كتب أهل الكتاب في الموسوعة الفقهية، ج33 ص65. قراءة. (1983). الموسوعة الفقهية، (الطبعة الثانية) الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

[5]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص281

[6]- المرجع نفسه، ص283

[7]- المرجع نفسه، ص281

[8]- المرجع نفسه، ص281

[9]- سورة المائدة، الآية 44

[10]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص282

[11]- وقد صدرت الطبعة الثانية عن نفس الدار في نفس السنة 2019 بعد مرور أشهر قليلة فقط عن الطبعة الأولى، وقد أضاف المؤلف إلى كتابه 27 إضافة جديدة بحيث أصبح عدد الإضافات 235 إضافة قرآنية مقسمة على تسعة عشر فصلا، بحيث أضاف المؤلف فصلا جديدا لكتابه هو الفصل الثامن: موسى والعبد الصالح.

[12]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص284

[13]- بوهندي، مصطفى. (2004). التأثير المسيحي في تفسير القرآن: دراسة تحليلية مقارنة. (الطبعة الأولى). بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر.

[14]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص11

[15]- المرجع نفسه، ص66

[16]- مثل مرحلة التربية والتعليم في حياة موسى والتي يقول عنها الكاتب: "هناك مرحلة لم يرد لها ذكر في سفر الخروج، وهي مرحلة تربيته وتعليمه... فيما ذكرتها النصوص القرآنية" موسى والتوحيد ص49

[17]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص74

[18]- المرجع نفسه، ص11

[19]- المرجع نفسه، ص29

[20]- المرجع نفسه، ص111

[21]- سورة الأعراف، الآيتان 128-129

[22]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص214

[23]- يقول الأستاذ مصطفى بوهندي في كتاب التأثير المسيحي...: "لا بد لقبول أخبار الأمم السالفة من شروط في المتن وفي السند.. فأما المتن، فلا يجوز أن يتعارض مع كتاب الله... ولا مع مقاصد الدين وكلياته، ولا مع سنن الكون والتاريخ والمجتمع والفطرة والمنطق والعقل" ص140

[24]- ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم..". صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها.

[25]- بوهندي، موسى والتوحيد، ص86

[26]- سورة المائدة، جزء من الآية 15

[27]- سورة آل عمران: الآية 64

https://www.mominoun.com/articles/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-200-%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%86%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B3%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-7145