الأربعاء، 28 يناير 2015

البشير الدامون، أرض المدامع.

البشير الدامون، أرض المدامع.
        أرض المدامع الرواية الثانية للمبدع التطواني البشير الدامون، وهي بمثابة الجزء الثاني لروايته الأولى "سرير الأسرار"، حيث تواصل بطلة الرواية مجهولة الاسم -المتماهي مع وضاعة أصلها "لقيطة" وخساسة منشئِها "بيت دعارة"- حياتها في صراع وجودي مع الذات، فما أن تنساب بها الأيام في دروب الحياة حتى تَهُبَّ عواصف الأحزان وآهات النفس العميقة لتقض مضجعها من جديد.
        تنفتح الرواية على فصول جديدة من حياة البطلة التي يَفعت وسافرت إلى مدينة فاس لاستكمال دراستها الجامعية حيث تلتحم بالمناضلين في ساحات النضال  متهمِّمة بقضايا الوطن غير عابئة بما قد يجره عليها عملها "الأرعن" من ويلات، شاهدة بذلك على فترة دقيقة من تاريخ الوطن داخل الجامعة وخارجها بعدما اندلعت انتفاضة الكرامة سنة 1984م ببعض المدن المغربية وما واكب ذلك من قمع شديد لهذه الانتفاضة والذي أودى بحياة المئات من الأبرياء وزج بالعديد من الآخرين في غياهب المعتقلات حيث تفنن السَّجانون في تعذيبهم والتنكيل بأجسادهم، وقد نال بطلتَنا قسطا وافرا منه.
        كما يبرز في الرواية أيضا صوت سردي جديد يمثله شخصية سيد القصر،هذه الشخصية الغريبة التي سيكون لها دور محوري في إنقاذ الشابة في طور مهم من حياتها، وقد جعله الكاتب أيضا شاهدا على فترة أخرى حساسة من تاريخ المغرب، وذلك بُعيد الاستقلال حيث هيمن الحزب الوحيد وسعى لإقصاء كل مخالف أو معارض له بالقوة والبطش. 
        والرواية تمتح بشكل غزير من قاموس الوجع ومعجم الحزن كعادة الكاتب في روايته الأولى، فالآلام والأحزان تطوق حياة البطلين ولا تترك لهما مجالا لالتقاط الأنفاس، إنما هي أحزان متواصلة ومصائب تترى.
        وعنوان الرواية نفسه يحيل على هذا المعنى ويؤكده "أرض المدامع": مدينة الأحزان عبر تاريخها الطويل منذ العهد الروماني، إذ المدامع عبارة عن أوعية زجاجية صغيرة لا يتعدى طولها نصف شبر جمعت فيه الملكة جونيا أورانيا دموعها حزنا على زوجها المغدور به، إذا كان من عادة الرومان أن يجمعوا الدموع في هذه الأشكال من الأواني عند فراق حبيب أو وفاة عزيز ثم انتقلت العادة بحكم الاحتكاك إلى شعوب مملكة موريتانيا الطنجية[1].
        يمكن القول أن الرواية تحكمها قضيتان بارزتان هما الهروب والفشل وذلك انسجاما مع الخط العام لطريقة كتابة الرجل لحد الآن على الأقل.
        فالهروب قضية مركزية في هذا العمل إن على المستوى النفسي الجواني أو على المستوى الاجتماعي البراني. فبطلتنا تواصل هروبها الخرافي من الضَّعة الاجتماعية التي ألقت الحياة بها بين أشواكها الحارقة، كما أن القدر أبى إلا أن يثقل جسدها بالهروب المادي من الملاحقات الأمنية، كأن عذابها النفسي لم يبلغ تمامه.
        والشيء نفسه عند بطل الرواية الجديد فهو غير قادر على الانفكاك من صور الفقدان العنيف لزوجته مرجانة "الكنز الحقيقي" التي تلاحقه وتنغص حياته، إضافة إلى كون جزء من حياته المادية قضاها هاربا خارج أرض الوطن خوفا من اضطهاد الحزب القوي بعد الاستقلال.
         أما قضية الفشل فلعلها المرآة التي يمكننا أن نعكس من خلالها لغة الإحباط التي تحكم مجموع أعمال مبدعنا، فلغة الحزن والمآسي والدمار تلتف على الرواية كما شجرة اللبلاب لتخنقها بين آهات الدموع ومرارة الواقع. حتى أننا يمكننا أن ننعت العمل بلا كبير وَجَل بأنه "مانفيستو الفشل": لقد فشلت الثورة اجتماعيا وفَشَلت قصص الحب لشخصيات الرواية كما فشل الصراع الطويل من أجل العثور على الكنز لتحل محله "المدامع الخمس" التي طبعت الرواية بنفسها الملحمي العميق.      


[1] - البشير الدامون، أرض المدامع ص157-158.