الأربعاء، 29 أغسطس 2018

رواية الحدقي لأحمد فال ولد الدين

الحدقي أحمد فال ولد الدين.
        الحدقي رواية تسترجع نَفَس التاريخ من أجل تشريح الواقع وبناء المستقبل، يتداخل فيها التاريخ والحاضر ولا ينفكان، وهو شكل لافت في السرديات التخيلية العالمية التي سكَّت طريقها نحو الأعمال العربية في العقود الأخيرة، ولا أظن مُخيّلة قارئ الحدقي إلا أنها ستجنح به نحو استحضار بعض الكتابات المشاكلة لهذا العمل عند قراءته له، وليس غريبا أنه كان يحضرني باستمرار العمل الباذخ للتركية اليف شافاق "قواعد العشق الأربعين"، وهو العمل الذي أحسب أن كاتب الحدقي "أحمد فال ولد الدين" كان يستلهمه عند كتابته لروايته، وهذا أمر غير مؤكد بل فقط من وحي مخيلتي التي أملت عليّ هذا الاستنتاج الذي يمكن نعته بأنه استنتاج تخييلي، وأضيف إلى ما ذكرته أن الرواية في جانبها الأعم تندرج ضمن الرواية التاريخية التي اجتاحت السوق الأدبية العربية في الآونة الأخيرة ويكفي تتبع قوائم "البوكر العربي" لتدرك مدى الحجم الذي أصبح يحتله هذا الجنس الروائي ضمن السرديات العربية المعاصرة.
        الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما: أبو عمرو عثمان بن بحر المعروف بالجاحظ لجحوظ عينيه وقيل له أيضا الحدقي ومن هنا اسم الرواية، وهو شخصية تاريخية معتزلية معروفة "صاحب فنون وأدب، وذكاء بيّن" كما يقول الذهبي، هذه الشخصية التي يريد الكاتب أن يستلهم جزء من القيم المرتبطة بها لحاجة الوقت إليها، لذا فهي محور الرواية وعليها تدور، أما الشخصية الثانية فهو القروي صورة الجاحظ ومثله في زماننا، فهو كاتب سيرة الجاحظ في الرواية ومُبرز مُثله في النص والواقع، حيث يغدو النص بنوع من التأويلية الحَرفيّة مَعبرا سالكا نحو الواقع وطموحا جارفا نحو تجسيده.
        أثار الكاتب من خلال هذه الرواية وشخوصها جملة من القضايا المرتبطة بالإنسان والزمان العربيين المعاصرين مثل سطوة التقاليد والأعراف، وتكلس المجتمع الخليجي في جهله واغتراره بماله ورفاهيته، وأنه عند كل مأزق ونهاية يكون ميلاد جديد... وغيرها، لكنني سأخص هنا قضيتين فقط بالمناقشة والتحليل:
        لعل أهم هذه القضايا وأبرز ما في الرواية قضية العربية والعروبة، فالجاحظ العلامة الكبير والأديب البارز يظهر في الرواية كما كان في الواقع باعتباره المدافع عن العرب والعربية الكاره للشعوبية والمناهض لنزقها، في وقت أطلت فيها الشعوبية برأسها واشتدت حركتها، المناوئ لصديقه سهل بن هارون بسبب ممالئته للشعوبيين، فقد كان هذا الأخير شعوبيا يتعصب للعجم ويتعقب مثالب العرب، يُنسب إليه رسالة في البخل كتبها كما يقول البعض نكاية في العرب لاشتهارهم بالكرم، ولعل أغلب الشعوبيين كانوا من أصل فارسي بسبب ضياع الملك والجاه منهم بظهور الإسلام وغلبته كما في بعض المحاورات في الرواية بين الجاحظ وصديقه سهل.
        والشأن نفسه نلقاه في شخصية القروي الذي يوحي اسمه ابتداء بالأصل البدوي حيث معدن العربية وأصلها، وهو يعمل في قناة العروبة مدققا لغويا، يأنف من اللحن ويكره السطحية التي تمثلها الشخصية الخليجية أحسن تمثيل.
        ويأتي إثارة الكاتب لهذه القضية في سياق تراجع المد العروبي والعروبة قيّما ولغة في الواقع العربي:
        فأما القيم العربية التي ينعيها الكاتب كالشهامة والرجولة والأنفة فقد اجتاحها المد المادي والتوسع في الرفاهية التي أغرقت المجتمع الخليجي وأفرغته من محتواه القيمي، فلا شيء يعلو على المال وقيمه، والجاه وسلطانه.
        والشيء نفسه يقال عن اللغة العربية التي توارت إلى الظل ليس فقط في الاستعمال الدارج بين الناس ولكن أيضا في وسائل الإعلام التي لم يعد يهمها أن ترتفع بذوق السامعين إلى سموق العربية وجمالها بقدر ما تحرص على إرضاء ذوق العامة من الناس والوصول إلى أكبر عدد منهم، وهو ما كان يقلق القروي فاستنهض الجاحظ من قبره ليخوض به معاركه ويجدد للعربية عهودها المشرقة.  
        وقصد الكاتب فيما أظن هو أن يعيد للعربية مكانتها وللنَفَس العروبي مجده.
        أما القضية الثانية البارزة في الرواية فهي إحياء النقاشات الفكرية المرتبطة بالفرق الإسلامية خصوصا ما يتعلق بالمعتزلة وتاريخها، ولعلي لا أخطئ القراءة والتأويل إن قلت بأن قصد الرجل مزدوج:
        فهو من جهة يُثمّن التنوع والثراء الفكري الذي كانت تعيشه البصرة أيام الجاحظ حيث كانت الدولة العباسية في قمة مجدها أيام الرشيد والمأمون والمعتصم، وتظهر قوتها في شيئين اثنين:
أولا في التسامح الفكري الكبير الذي كان يطغى على الحياة الفكرية والأدبية آنئذ على العموم حيث تظهر البصرة سوقا كبيرة للأفكار والمذاهب والأديان المتدافعة والمتناظرة لا يحدها إلا الدليل والمعرفة.
وثانيا في الانفتاح الكبير للحضارة الإسلامية على الحضارات المجاورة واهتمامها بالعلم والمعرفة حيث نشطت الترجمة ونفقت أسواقها.
ومن جهة أخرى فهو يَعتب على المعتزلة فرض أرائهم بالقوة على الناس ويغمز الجاحظ من طرف خفي لما كان له دور لا يخفى في محنة علماء أهل السنة حسب متن الرواية.
        كأن الكاتب يتمنى أن تعود للحياة الفكرية في المجتمعات الإسلامية خصوبتها وطراوتها بعيدا عن المواقف "الدوغمائية" الحدية، وفي نفس الوقت يومئ بأنه لا يمكن لهذه الحياة أن تقوم أو تستمر بدون نفَس سياسي قائم على الحرية والاختيار.
        وفي الأخير لي ملاحظة خاصة على لغة الكاتب التي أرى أنه كان يكتنفها التكلف الذي يصل حد التقعر في أحيان كثيرة، ورغم أن أجواء الرواية وسياقاتها العامة تقتضي أن يوظف الكاتب جزء من المعجم الذي كان سائدا زمن الجاحظ فإن استرساله في مواضع كثيرة من روايته في تكلف التعابير وانتقاء الألفاظ يجعل القارئ يخرج من جلده ويشعر بنوع من الاغتراب.

حفيظ هروس 29-08-2018.