الاثنين، 29 ديسمبر 2014

د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي.

د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي.
الكتاب عبارة عن مجموعة من الأبحاث المتفرقة )خمسة فصول(  كتبها الرجل في مراحل زمنية مختلفة، لكنها تتعلق كلها بموضوع المقاصد لهذا ارتأى نشرها في كتاب واحد، بعضها حسن جيد وبعضها لم يكن الكاتب موفقا فيه غاية التوفيق، بل درج على النهج التقليدي في تناول موضوعات المقاصد ومباحثها مع بعض الإلماعات القليلة هنا أو هناك أو بعض التطبيقات المتوقعة المعهودة ويتعلق الأمر خصوصا بالفصل الأخير الذي خصصه لتنزيل مقاصد العقيدة على اسمَي الله المعطي والمانع من خلال حكم ابن عطاء الله السكندري، وكذلك الفصل الثالث الذي حقق فيه مسألة القول بجواز بقاء زواج المرأة التي أسلمت دون زوجها لتماشيه مع مقاصد الشريعة في الموضوع، فإنها مجرد تطبيقات جزئية مسبوقة باجتهادات أكثر جرأة سواء في عصرنا الحاضر أو تاريخنا الفقهي والتشريعي، لهذا لن أتعرض في هذه العجالة لهتين القضيتين.
      أما المباحث التي وُفق فيها الكاتب في استلهام روح جديدة للمقاصد بحيث تكون به فعلا مسايرة لواقع الناس ومفضية إلى استحداث الجديد في ظل الواقع المتشابك الذي يشهده العالم اليوم نجد الفصل الأول –أعتبره أفضل فصول مباحث الكتاب- الذي جَهد من خلاله الكاتب في "تحليل أثر رؤية العالم في ذهن المجتهدين المقاصديين في استقرائهم للمقاصد ونحتهم لمصطلحاتها"[1]، ومفهوم "رؤية العالم" عنده عبارة عن "منظومة ذهنية وإحساس بالواقع يشكلان نظرة الإنسان إلى ما حوله في الحياة وأسلوب تفاعله معه"[2]، وهو مفهوم حديث النشأة نسبيا، نشأ في الفلسفة الألمانية منذ قرن من الزمن.
      وقد أبان الكاتب من خلال تنزيل هذا المفهوم على قضايا المقاصد من خلال استقراء اجتهادات المقاصديين المختلفة عبر التاريخ الطويل لهذا العلم عن الأثر الواضح للواقع المعيش والتطورات الحادثة في كيفية صياغة العلماء لمقاصد الشريعة وتعبيرهم عنها، ومن أمثلة ذلك طريقة تعبيرهم عن ضرورة حفظ الضرورات الخمس المعروفة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
      فبخصوص كلية الدين انتقل الأمر من مجرد المطالبة بحفظ الدين إلى ضرورة كفالة الحريات الدينية "فقد تحول حفظ الدين من مبدأ يقوم عليه "حد الردة" إلى مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية بالمعنى المعاصر"[3] ومن نتائجه المرجوة تعميم القبول بمبدأ الحرية الدينية وتناسي حد الردة، وانتقل التعبير عن كلية النفس من حفظ النفس إلى حفظ حقوق الإنسان بالمعنى المعاصر المتضمن للكرامة الإنسانية ولعل هذا يُشرع أمامنا الأبواب للقدرة على القول بكونية حقوق الإنسان، أما كلية العقل فانتقل التعبير عنها من حفظ العقل إلى تنمية الملكات العقلية والفكرية، فلم يعد الأمر مجرد صياغة حفظية بل صياغة تنموية للعقل البشري، وانتقل التعبير عن كلية النسل من حفظ النسل والعرض إلى بناء الأسرة وكلية المال من مجرد حفظ المال إلى ضرورة التنمية الاقتصادية بأبعادها المختلفة.
      أما المباحث التي لم يوفق فيها الكاتب في نظري فهي محاولته تقويم معايير البنك الدولي في تقييم قوة الاقتصاد المعرفي على ضوء المقاصد الشرعية والتي خصص لها الفصل الرابع، ومعايير البنك الدولي تتوزع على ثلاثة معايير رئيسة تنضوي تحتها عدة مقاييس جزئية، والمعايير الثلاث الكبرى هي: معدل الابتكار ومعدل التدريب والتعليم ومعدل تشجيع المؤسسات والشركات.
      ومعلوم أن هذه المعايير تضع الدول العربية والإسلامية في ذيل الترتيب العالمي نظرا للتخلف الشديد الذي تشهده هذه الدول مجتمعة بخصوص المعايير المذكورة الشيء الذي يعكس الإهمال الشديد الذي يعاني منه الاقتصاد المعرفي خاصة ومعدلات التنمية البشرية عامة في العالمين العربي والإسلامي.
      وإذ لم يرغب الكاتب في الخوض في أسباب هذا التخلف الهيكلي الذي تعاني منه الأمة فإنه في المقابل عوَّل على تقويم هذه المعايير وتصويبها بما ينسجم مع الرؤية الإسلامية المتضمنة في المقاصد الشرعية الكبرى، مما قد يكون له بعض الأثر في زحزحة تنصيف هذه الدول.
لكنني أعتقد أن الكاتب قد أخفق إلى حد ما في هذا التصويب وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن اقتراح معايير جديدة للتصنيف تندرج ضمن المبادئ والأخلاق أكثر من اندراجها في مجال البحث والابتكار من قبيل الاستناد إلى الكيف قبل الكم باعتبار أن "الكيف أولى من الكم في ميزان الإسلام"[4] يعفي الأمة من الحاجة إلى الكم أيضا والتي هي مفتقرة إليه أشد الافتقار، ثم إن التشجيع على إنتاج الكم والوفرة يشمل ضمنا مسألة الكيف، أما التركيز على الكيف وحده فإنه يضيع مسألة الكم ويسقطنا في انتظارية مقيتة لمسألة الكيف التي قد تأتي أو لا تأتي.
ثانيا: انتقاد إدراج مدى قدرة المواطنين على الولوج إلى المعلومة وتحقيق التواصل السريع من خلال معدلات البنية التحتية التواصلية والإعلامية )عدد التليفونات لكل ألف نسمة- عدد أجهزة الحاسوب لكل ألف نسمة- عدد مستخدمي الإنترنيت لكل ألف نسمة( من خلال التركيز بدلا من ذلك على "كيفية استغلال هذه الشبكة وأنواع التطبيقات والصفحات المنشأة والمستدعاة من خلال الشبكة"[5]، يضفي الشرعية على واقع التفاوت الاجتماعي وسوء توزيع الثروات الذي ترزح تحت ويلاته الأمة بفعل الاستبداد والفساد، والصواب هو الإبقاء على معايير البنك العالمي وتعزيزها لأنها تكشف واقع الحال المهترئ في هذه الدول التي يستبد بخيراتها طغمة قليلة من الناس، بينما السواد الأعظم من المواطنين محروم من حقه في النفوذ إلى المعلومة والاتصال.
      بعد هذا العرض يتبقى لنا الفصل الثاني الذي اقترح فيه صاحبنا نوط الأحكام الشرعية بمقاصدها تدور معها وجودا وعدما إلى جانب العلة التي درج الفقهاء على نوط الأحكام الشرعية بها وعبَّر عن ذلك من خلال صوغ القاعدة التالية )تدور الأحكام الشرعية العملية مع مقاصدها وجودا وعدما كما تدور مع عللها وجودا وعدما([6]، لكن تحُول دون هذا الاقتراح صعوبات أهمها عدم وضوح التمييز الذي وضعه الكاتب بين مقصد الحكم والحكمة المرجوة منه، يقول: "الحكمة مصلحة تترتب على الحكم، أما المقصد فهو مصلحة أو مجموعة مصالح ينص الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنها المقصودة من الحكم، أي لولاها لما شُرع الحكم أصلا"[7]، فأنت ترى أنه عبر عن الأمرين بالمصلحة الشيء الذي يزيد الأمر التباسا لا وضوحا، كما أن الكثير من التطبيقات التي ساقها في الباب لا تخرج عن هذا الالتباس، ومن ذلك مسألة عطاء المؤلفة قلوبهم واجتهاد عمر في ايقاف هذا المصرف من الزكاة فمبناه على إعزاز الإسلام حسب ما صرح به ابن الهمام[8]، لكن قضية الإعزاز هذه هل هي علة الحكم كما قال ابن الهمام أم مقصد له حسب ما ذهب إليه الكاتب أم مجرد حكمة؟ فلا شك أن الإعزاز مصلحة ظاهرة لكن حملها على المقصد دون الحكمة مسألة فيها نظر.
      كما أنه يتعسف في تأويل معنى الحكمة على معنى المقصد ومن ذلك ما ذهب إليه ابن قدامة في معرض استبعاده اعتبار المرض علة للترخيص في لإفطار لأن المرض علة غير منضبطة فوجب العدول إلى الحكمة وهي خوف الضرر يقول: "وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره"[9]، لكن صاحبنا اعتبر أم مقصود الرجل بالحكمة هو المقصد، وهذا غير مسلَّم له.
      وهكذا نصل إلى التصريح بالنتيجة المرجوة من هذا النقاش وهو أن نوط الأحكام بمقصدها هو نفسه نوطها بحكمها إذ لا فرق، ومسألة اعتبار الحكمة في القياس سبق أن دعا إليها العديد من العلماء والمجتهدين منهم ابن قدامة في قوله السابق، ولعل غلط جمهور الفقهاء هو إصرارهم على اعتبار العلة دون الحكمة في القياس والاجتهاد وهو تضييق لواسع، وعليه فإن صاحبنا لم يأت بجديد في الموضوع. والسلام
      الاثنين 29 دجنبر 2014.



[1] -د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2013.
[2] -المرجع نفسه ص16.
[3] -المرجع نفسه ص30.
[4] -المرجع نفسه ص119.
[5] -المرجع نفسه ص121.
[6]-المرجع نفسه ص73.
[7] -المرجع نفسه ص79.
[8] -المرجع نفسه ص51.
[9] -المرجع نفسه ص80.

الأحد، 9 نوفمبر 2014

إقرأ وربك الأكرم لجودت سعيد.

إقرأ وربك الأكرم لجودت سعيد.
     قد يبدو لأول وهلة أن الكاتب سيكرس مؤلَفه هذا للحديث عن القراءة وما يحيط بها من قضايا ومستلزمات، لكن القارئ قد يصاب بخيبة أمال كبيرة إذا كان غرضه من قراءة الكتاب والاطلاع على تفاصيله هو أن يقترب أكثر من هموم القراءة وأشجانها، أو طرق القراءة وتقنياتها، فالمؤلف نفسه في خاتمة الكتاب يعترف بما لا مزيد عليه بأنه لم يول هذا الموضوع ما يستحق من الاهتمام، يقول: "مِثل موضوع القراءة مع أهميتها البالغة، فإن التناول كان هزيلا ومبتورا وحيرا"[1].
     وفي مقابل ذلك فإن الموضوع الذي شغل بال الرجل وحاول أن يصرخ بأعلى ما أوتي من صوت ليلفت انتباه الناس إلى أهميته هو موضوع العلم، حيث عمد إلى تقديم فهم جديد له متجاوزا القصور البين الذي شاب تعريف هذا المفهوم الرئيس في مشروعه الإحيائي سواء من قبل المسلمين أو الغربيين.
     وقد جعل مطمحه في الكتاب هو تحقيق غرضين:
أولهما: وضع الإنسان على طريق العلم، وذلك ينقل مَلكة العلم إلى الناس ونشرها بينهم.
ثانيهما: السلام، وهو وليد العلم، فعن طريق العلم يدرك الإنسان إمكانية إصلاح الإنسان دون إعطابه أو تدميره[2].
     ولعل الشيء الذي حدا بالرجل إلى التفكير بمعالجة هذا الموضوع منذ بداياته الأولى في عالم الكتابة -ومن ثمَّ تخصيص كتاب له- بالإضافة إلى الأهمية الذاتية للموضوع نفسه، هي كمُّ المفاهيم المغلوطة المرتبط به وكذا النظرة السطحية للجمهور والنخبة معا في تناولهما لموضوع العلم ومفهومه، لذلك لم يجد مهربا من اقتحام لجة البحث على صعوبته، يقول: "لذلك رأيت من المفيد التوجه إلى دراسة العلم –مع اعترافي بمحدودية ما أملك- وأنه لا بد من البدء بطرح الموضوع لنتوجه إلى العقول بتحديد معنى العلم وتمحيصه"[3].
     ورغم إغفال صاحبنا لموضوع القراءة إجمالا إلا أنه يؤمن أن موضوع القراءة يرتبط ارتباطا عضويا بقضية العلم ومفهومه، حيث يصرح دون تردد: "إن الهدف هو العلم وهو متوقف على القراءة، فهي رحى العلم التي بها ينمو ويتطور"[4]، بل يعترف أنه قد تبين له من خلال معاناة طويلة للموضوع أن "قانون سير العلم مرتبط بالقراءة"[5] التي هي مشكلتنا الأساسية. وهذا ما يفسر إلى حد ما اختيار المؤلف لعنوان كتابه "إقرأ وربك الأكرم" مع أن موضوعه الرئيس هو العلم.
     يرى السيد سعيد أن مفهوم العلم الشائع بين الناس اليوم لا يُطمئن إليه سواء لدى المسلمين أو لدى الغربيين، فالمسلمون يرون أن العلم لا يهدي إلى الحق لاعتقادهم بوجود طرق غير العلم قد تفضي إلى معرفة الحق، بينما الغربيون يقصرون العلم على الظواهر الطبيعية، أما عندما يتعلق الأمر بالقيم والدين أو الإنسانيات فإنهم يرون هذه المواضيع غير علمية[6].
     أما التصور القرآني للعلم كما يفهمه الرجل والذي يصحح من خلاله هاتين النظرتين القاصرتين هو "أن العلم هو الذي يكشف الحق"[7]، لهذا وجب على المسلمين أن يصلوا إلى درجة الثقة الكاملة بالعلم، كما أن على الغربيين أن يدركوا دور العلم في مجال الدين والقيم لا في مجال الطبيعيات فحسب[8].
     يستدل الرجل على صحة تصوره من خلال استدراك مرتبة جديدة في الوجود على ما ذكره المناطقة والأصوليون[9] وهي مرتبة الوجود السنني، والمتمثل في وجود الشيء في علم وسنته قبل الوجود الخارجي له، وذلك مثل التفاعلات الكيمائية قبل حدوثها. والوجود السنني مطرد لا يتخلف ثابت لا يتغير، سواء في الظواهر الطبيعية أو حتى في الظواهر الإنسانية وهي بصمة الكاتب الخاصة في هذا الموضوع إذ أنه يضع ثقله كله في الدفاع عن علمية واطراد الظواهر الإنسانية.
     وقد حاول الرجل بعد ذلك أن يضع للعلم أسسا منضبطة بها يعرف وإليها يحتكم الناس، وأهم هذه الأسس هي:
1-لا علاقة بين السبب والنتيجة عقلا: ومقتضى هذا الأساس أن العقل لا قدرة له على ربط الأسباب بالنتائج قبل أن يشاهد هذا الارتباط في الواقع الخارجي، فالعلم هو القدرة على ربط النتائج بالأسباب بعد البحث والتجربة ومن ثمَّ يدركها العقل ويقوم بعملية الربط بينهما. ومما أضافه الكاتب في هذا الباب أن هذا القانون يصدق على الظواهر الإنسانية مثلما يصدق على الظواهر الطبيعية.
2-العقل ليس آلة بل وظيفة: بحيث لم يرد العقل في المصادر الإسلامية باعتباره جوهرا مستقلا بنفسه، وإنما باعتباره وظيفة قائم بغيره.
3-عدم وضع عالم الأشخاص محل السنن:يرى مالك بن نبي أن الطفل يمر بثلاث مراحل في إدراكه هي: عالم الأشياء ثم عالم الأشخاص ثم عالم الأفكار. فحاجة الطفل للتعرف على العالم يجعله يستعين بعالم الأشخاص، فيحل الآباء محل السنن، وهو نوع من الوثنية الدينية التي ينبغي التخلص منها عن طريق إنزال الأشخاص منزلتهم الحقيقية في الخبرات الإنسانية التي يجب أن تُقبل على أساس السنن لا على أساس الأشخاص.
     بعد ذلك يتطرق الكاتب لدليل العلم والذي هو في نظره شيئين:
-التنبؤ: هو القدرة على معرفة ما سيفعل في الأمر الثاني بناء على معرفة الأمر الأول المماثل له وشروط إنتاجه.
-التسخير: علم الإنسان بالسنن الكونية وأنها تتكرر ولا تتبدل أو تتغير فيستطيع أن يتدخل فيها ويوجهها إلى حيث تفيده[10].
    






[1] -جودت سعيد، إقرأ وربك الأكرم ص146.
[2] - نفسه ص4.
[3] -نفسه ص2.
[4] - نفسه ص2.
[5] -نفسه ص2.
[6] -نفسه ص6.
[7] -نفسه ص6.
[8] -نفسه ص6.
[9] - ذكر الإمام الغزالي في مقدمة كتابه المستصفى أن مراتب الوجود أربعة هي: الوجود العيني الخارجي- الوجود الذهني- الوجود اللفظي- الوجود الرسمي الكتابي. المرجع نفسه ص22
[10] -المرجع نفسه ص72-73.

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

رحيل المرافئ القديمة انطباعات أولية.

رحيل المرافئ القديمة انطباعات أولية.

     يجسد هذا العمل المتميز آثار اللهيب والحرائق والدمار التي خلفتها النكسة على النفوس والضمائر، إنها الحيرة المعلقة على جدران الصمت الخرساء التي تقوى على التعبير أفضل مما تفعله الألسن الغائرة في الحناجر بألف لغة ولسان.
     يُمثل الهرب الدائم والفرار المستمر في دروب الخرائط الممزقة وعبر الخرائب القديمة والمقابر المنسية التي حالت إلى جذوة الحياة ونسغها بعيدا عن عذابات وجراح الصور الباهتة والهياكل المحنطة في واقع الناس.
     إنه قلق الحقيقة وسوطها المسلط مثل سيف دموقليس الذي يلاحق جلد الأحياء فيبدلونه بآخر كالحيات، إنه شؤم التاريخ ونُذر الجغرافيا المتجسد في وباء الكذب والنفاق اللذين أعقبا النكسة.
     لعلها بكائيات أطلال الموت المنبعثة من رماد الأحلام والأمنيات، ومرثيات الحزن المنغرس في قلوب مدمية برائحة المنون ولون الأكفان.
     تلك هي انطباعاتي عند قراءة هذا العمل الفريد للموهوبة غادة السمان، بحيث تجد نفسك تعيش مرارات الهزيمة مثلما عاشها جيل بأكمله الذي وقف على حافة الاحتراق البطيء المسكون بدفق الجنون والحيرة والذهول.  
18/10/2014

السبت، 20 سبتمبر 2014

إضاءات حول كتاب "أشواق الحرية" لصاحبه نواف القديمي.

إضاءات حول كتاب "أشواق الحرية" لصاحبه نواف القديمي.


أسال موقف التيار الإسلامي من الديمقراطية الكثير من المداد: فقد كُتبت حوله العديد من الدراسات والمؤلفات، وعُقدت الكثير من الندوات والمؤتمرات،  وذلك باعتبار التوجسات والشكوك التي يطرحها أطراف مختلفة حول موقف الإسلاميين عموما من الديمقراطية، وذلك رغم إعلان الغالبية العظمى منهم نيتهم العمل تحت المظلة الديمقراطية بل والمشاركة الفعلية للكثير من أعلامهم وتياراتهم في اللعبة الديمقراطية نفسها ودخولهم المشهد السياسي وخوضهم المعترك الانتخابي في أكثر من بلد عربي وإسلامي خصوصا بعد موجات الربيع العربي.
لكن تحفظ قطاع واسع من السلفيين المحسوبين –بالضرورة- على التيار الإسلامي على العملية الديمقراطية برمتها خصوصا في بعض دول الخليج كان الباعث الحثيث الذي أوقد شعلة الكاتب ودفعه دفعا لتدبيج كتابه هذا قصد إبراز وجوه القصور في الطرح السلفي المتحفظ على العملية الديمقراطية ومحاولة إقناع وجوهه البارزة وجماهيره العريضة بأهمية الديمقراطية في تنظيم الدولة العربية الراهنة التي تشكو عوزا مفرطا في التحرر والعدالة.
بداية يقصد صاحبنا بالتيار السلفي الذي يوجه إليه خطابه، بأنه تلك "المدرسة الفكرية التي تمثِّل الامتداد الطبيعي لمدرسة أهل الحديث من حيث المحدد العقدي التفصيلي، ومن حيث التمحور حول النقاء في التعامل مع المختلفين داخل الصف الإسلامي. ثم من حيث الاعتماد على مرجعية السلف في التعاطي مع كل القضايا الفقهية، حتى تلك المستجدة والحادثة.."[1].
والتيار السلفي بهذا المعنى حسب الكاتب يضم جناحين: جناح تقليدي غير منظم حركيا، سواء كان قريبا من السلطة أو بعيدا عنها، وجناح حركي يضم الحركات السلفية المنظمة[2]. ولا يخرج موقف الجناحين من الديمقراطية عن إطارين:
-رفض المشاركة في العملية الديمقراطية، إيمانا بعدم مشروعيتها، وبأنها تتنافى مع أصول الإسلام.
-المشاركة في العملية الديمقراطية تحت لافتة )المصلحة( و)الضرورة( مع الاعتراض على أسس النظام الديمقراطي واعتبارها مناقضة لأصول الإسلام[3].
ومما يلاحظه الكاتب على هذا التيار هو حجم الغياب المرعب لقضايا العدل والحقوق عن خطابه[4]، مع العلم أن هذه القضايا حظيت بحضور كبير ونالت رتبة الأولويات في الخطاب الشرعي الأصلي المبثوث في نصوص الوحيين: القرآن والسنة[5]، في حين انصرف الخطاب السلفي إما إلى مباحث كلية أخرى مثل قضايا العقائد والهوية والأخلاق[6]، أو انصب على قضايا فرعية ومسائل ثانوية منها ما يهم المجتمع السعودي على وجه الخصوص مثل النقاشات وردود الأفعال الذي رافقت صدور رواية "بنات الرياض"[7].
لهذا كله فإن القضية الأساس التي يناضل من أجلها الكتاب هي محاولة إقناع جمهور السلفيين المعارضين للديمقراطية أو المتحفظين عليها بأهميتها في إدارة المجتمعات العربية الراهنة، وأنها يمكن أن تشكل الرافعة الأساس لتجاوز مستنقعات الحكم الفردي ولتخطي قيود الاستبداد التي كبلت الأمة وعطلت طاقاتها منذ الانقلاب الأموي الأول على السلطة الشرعية إلى يوم الناس هذا.
ولعل أهم تحفظات التيار السلفي على العملية الديمقراطية تعود إلى أوهام وإشكالات غير صحيحة، سرعان ما تتبدد متى عُدلت المفاهيم وقوِّمت الاعوجاجات، ومن ذلك في نظر الكاتب ما يلي:
أولا: الخلط المريع بين مفهومي السلطة والمرجعية، ذلك أن المقولة الجاهزة التي يعترض بها رافضو الديمقراطية من الباب الشرعي هي "في الديمقراطية الحكم للشعب، وفي الإسلام الحكم للشريعة"، وإذ يعتبر الكاتب هذه المقارنة مُضللة، فإن منشأ الخلل فيها يعود إلى الخلط بين مفهومين يمكن التمييز بينهما تمام التمييز دون عناء. فإذا كانت السلطة هي "أداة التنفيذ العملي في الدولة" فإن المرجعية هي "مجموع الأفكار والمبادئ والأحكام التي تحتكم إليها السلطة في التشريع"[8]، وعليه فإن المرجعية ستظل دائما هي الشريعة في المجتمع الإسلامي، مع ملاحظة أن "سلطة" تطبيق الشريعة كانت تُسند في التاريخ الإسلامي إلى حاكم فرد متغلب، أما في النظام الديمقراطي فتسند "سلطة" تطبيق الشريعة إلى الأمة، وحتى في حال انحراف الأمة واختيارها عدم تطبيق الشريعة فهذا لا يعني أن الشعب بات هو المرجعية، بل تبقى الشريعة هي المرجعية الدائمة للمسلم[9].
ثانيا: الربط الآلي الذي يقوم به مناهضو الديمقراطية بين هذه الأخيرة وبين العلمانية، يقول الكاتب "أن العنصر الرئيس الذي يتكئ عليه كثير من ناقدي النظام الديمقراطي هو الربط الصارم بين الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما متلازمين ولا يمكن الفصل بينهما. ويكون هذا الربط بين المفهومين هو القاعدة الصلبة للتحريم ونفي المشروعية"[10]. لهذا فقد سعى جاهدا إلى تقديم فهم خاص للديمقراطية يقوم على اعتبارها آليات تحسم الخلاف وتنظم المجتمعات لا يجوز الربط الصارم لها بأية فلسفة البتة، الشيء الذي يعني أن كل مجتمع يمكنه أن يمتلك تلك الآليات وفقا لثقافته وفلسفته الخاصة، لهذا فإنه لا يتوانى عن الاستشهاد بالفيلسوف الأمريكي جون رولز الذي "أكد حيادية العملية الديمقراطية وعدم ارتباطها بالمفهوم العلماني"[11].
لكن هذا المسلك طوَّح بالكاتب بعيدا عن المفهوم الشامل للديمقراطية وذلك من خلال تغليب غير محمود لآلية الانتخاب وقصرها عليه في الغالب، إذا مما لا غبار عليه أن روح الديمقراطية تتجاوز العملية الانتخابية التي تعد بمثابة القشرة لها إلى لب الأمر الذي من مقتضياته صون الحقوق الأساسية للإنسان وحفظ حقوق الأقليات. ولعل هواجس المجتمع السعودي المحافظ وشيطنة التيار السلفي –المقصود بالخطاب في هذا الكتاب- للعملية الديمقراطية رزحت بثقلها على المؤلِف ودفعته كرها إلى هذا الطرح.
لكن النتائج التي آل إليها هذا الفهم الضيق للنظام الديمقراطي أظهرت عور هذا الطرح وخطله، ويمكننا أن نمثل لذلك في تلكؤ الكاتب الواضح في الإقرار بجملة من الحقوق الطبيعية التي يكفلها النظام الديمقراطي للشعوب عامة وللمعارضة على وجه الخصوص، ومن ذلك:
-حظر تأسيس أحزاب على أساس علماني، بحيث يمكن للأمة عبر دستورها أن تقر ذلك، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يصادر أحد قرار الأمة حتى ولو كان ذلك بطلب من الأغلبية البرلمانية[12]. وهذا رديف الدعوة العلمانية إلى مصادرة حق الإسلاميين في المشاركة السياسية بدعوى منع قيام وتأسيس أحزاب على أساس ديني، وهو أمر ينم عن جهل أصيل بقواعد اللعبة الديمقراطية التي تقوم على صون الحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في التجمع الحزبي والمشاركة في المشهد السياسي.
-مصادرة الحق في التعبير متى خالف الشريعة الإسلامية ومن مظاهر هذه المخالفة المطالبة بتنحية الشريعة عن الحكم التي يمكن مصادرتها عن طريق سنِّ الأنظمة والقوانين التي تمنع ذلك بدعوى أنه لا توجد حرية مطلقة حتى في أعتى الأنظمة الديمقراطية وأقدمها وجودا[13]. ولا يخفى عليك أيضا أن هذا مخالف للقواعد الديمقراطية المتعارف عليها مادام أن الأمر يتعلق بانتهاك حقوق المعارضة أو مصادرة الحريات العامة.
لكننا نجده في الوقت نفسه –وبدافع إقناع السلفيين بجدوى العملية الديمقراطية- يُزين لمخاطبيه النظام الديمقراطي عن طريق إبراز الهوامش العظيمة التي يتيحها هذا النظام للمعارضة الإسلامية في حال فشلها في الوصول إلى الحكم والتي يمكنها  "تأسيس أحزاب وجمعيات ومدارس ووسائل إعلام.. من أجل دعوة الناس إلى تطبيق الشريعة، وتغيير الدستور .. كي يكون ملتزما بالشريعة"[14] هكذا بجرة قلم، بينما المخالف لا يمكنه أن يتمتع بهذه المزايا والحقوق مادام يُشكل الأقلية، بحيث يمكننا أن نلمس الطرح البرجماتي الواضح في هذا الفهم الخاص للنظام الديمقراطي.
لكن مع هذا كله فإن الكاتب قد حاول الاجتهاد قدر الإمكان في بلورة جملة من الفهوم الجديدة للعديد من المصطلحات التي كرسها الفقه الإسلامي السلطاني بغية الحد من حرية الأمة في بناء نظام سياسي يقوم على حقها الأصيل في اختيار حكامها وتقويم أعمالهم وعزلهم، ومن بين هذه المصطلحات أخص بالذكر اثنين هما:
-مفهوم الغلبة الذي ارتبط في الكتابات والآداب السلطانية بضرورة طاعة المتغلب بالقوة وحِرمة الخروج عليه درء للفتنة وحقنا للدماء، هذا المصطلح ينبغي –حسب الكاتب- انتزاعه من هذا المعني السلبي وربطه بالأحرى باختيار الناس وتصويت المواطنين[15]، وهي فكرة استمدها من كتابات الشيخ محمد الحسن بن الددو.
-مفهوم "ولي الأمر" الذي ارتبط في الفكر الإسلامي بالحاكم الفرد القوي والعادل، لكن هذا المدلول التقليدي ينبغي تجاوزه أيضا عن طريق ربط المصطلح وإحالة معناه على مؤسسات الدولة وسلطاتها الشرعية المتعددة، يقول صاحبنا "صلاحيات وسلطات )ولي الأمر( صارت اليوم في النظام السياسي الحديث موزعة على سلطات ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، لا تهيمن فيها سلطة على أخرى.."[16].
إن هتين الفكرتين كفيلتين بأن تفتحا الباب واسعا أمام إعادة النظر في المفاهيم والمصطلحات التي نحتها الفقه السلطاني، وكذا مساءلة مدلولاتها وتفكيك معانيها في أفق تجاوزها وإعادة صياغة الفقه السياسي الإسلامي أو ما يعرف بالسياسة الشرعية برمته على ضوء المستجدات السياسية والعلمية التي شهدها الفقه الدستوري المعاصر.   
الثلاثاء 16 شتنبر 2014.





[1] -نواف القديمي، أشواق الحرية: مقاربة للموقف السلفي من الديمقراطية. تقديم: أحمد الريسوني ومحمد الحسن بن الددو. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة السادسة 2013. ص25.
[2] -المرجع نفسه ص26. نلمس هذا الطرح مثلا في سعي الأستاذ حماد القباج في التأصيل للمشاركة في العملية السياسية والتصويت في الانتخابات ودخول البرلمانات وفقا لقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد في كتابه "الاستبصار والتؤدة في عرض المستجدات والنوازل على قواعد المصلحة والمفسدة".
[3] -المرجع نفسه ص26.
[4] -المرجع نفسه ص110.
[5] -المرجع نفسه ص110.
[6] -المرجع نفسه ص111.
[7] -المرجع نفسه ص110.
[8] - المرجع نفسه ص53.
[9] - المرجع نفسه ص52 و53.
[10] - المرجع نفسه ص115.
[11] - المرجع نفسه ص30.
[12] - المرجع نفسه ص50 وانظر أيضا ص87.
[13] - المرجع نفسه ص87.
[14] - المرجع نفسه 58-59.
[15] - المرجع نفسه ص74.
[16] - المرجع نفسه ص104.