الأحد، 9 نوفمبر 2014

إقرأ وربك الأكرم لجودت سعيد.

إقرأ وربك الأكرم لجودت سعيد.
     قد يبدو لأول وهلة أن الكاتب سيكرس مؤلَفه هذا للحديث عن القراءة وما يحيط بها من قضايا ومستلزمات، لكن القارئ قد يصاب بخيبة أمال كبيرة إذا كان غرضه من قراءة الكتاب والاطلاع على تفاصيله هو أن يقترب أكثر من هموم القراءة وأشجانها، أو طرق القراءة وتقنياتها، فالمؤلف نفسه في خاتمة الكتاب يعترف بما لا مزيد عليه بأنه لم يول هذا الموضوع ما يستحق من الاهتمام، يقول: "مِثل موضوع القراءة مع أهميتها البالغة، فإن التناول كان هزيلا ومبتورا وحيرا"[1].
     وفي مقابل ذلك فإن الموضوع الذي شغل بال الرجل وحاول أن يصرخ بأعلى ما أوتي من صوت ليلفت انتباه الناس إلى أهميته هو موضوع العلم، حيث عمد إلى تقديم فهم جديد له متجاوزا القصور البين الذي شاب تعريف هذا المفهوم الرئيس في مشروعه الإحيائي سواء من قبل المسلمين أو الغربيين.
     وقد جعل مطمحه في الكتاب هو تحقيق غرضين:
أولهما: وضع الإنسان على طريق العلم، وذلك ينقل مَلكة العلم إلى الناس ونشرها بينهم.
ثانيهما: السلام، وهو وليد العلم، فعن طريق العلم يدرك الإنسان إمكانية إصلاح الإنسان دون إعطابه أو تدميره[2].
     ولعل الشيء الذي حدا بالرجل إلى التفكير بمعالجة هذا الموضوع منذ بداياته الأولى في عالم الكتابة -ومن ثمَّ تخصيص كتاب له- بالإضافة إلى الأهمية الذاتية للموضوع نفسه، هي كمُّ المفاهيم المغلوطة المرتبط به وكذا النظرة السطحية للجمهور والنخبة معا في تناولهما لموضوع العلم ومفهومه، لذلك لم يجد مهربا من اقتحام لجة البحث على صعوبته، يقول: "لذلك رأيت من المفيد التوجه إلى دراسة العلم –مع اعترافي بمحدودية ما أملك- وأنه لا بد من البدء بطرح الموضوع لنتوجه إلى العقول بتحديد معنى العلم وتمحيصه"[3].
     ورغم إغفال صاحبنا لموضوع القراءة إجمالا إلا أنه يؤمن أن موضوع القراءة يرتبط ارتباطا عضويا بقضية العلم ومفهومه، حيث يصرح دون تردد: "إن الهدف هو العلم وهو متوقف على القراءة، فهي رحى العلم التي بها ينمو ويتطور"[4]، بل يعترف أنه قد تبين له من خلال معاناة طويلة للموضوع أن "قانون سير العلم مرتبط بالقراءة"[5] التي هي مشكلتنا الأساسية. وهذا ما يفسر إلى حد ما اختيار المؤلف لعنوان كتابه "إقرأ وربك الأكرم" مع أن موضوعه الرئيس هو العلم.
     يرى السيد سعيد أن مفهوم العلم الشائع بين الناس اليوم لا يُطمئن إليه سواء لدى المسلمين أو لدى الغربيين، فالمسلمون يرون أن العلم لا يهدي إلى الحق لاعتقادهم بوجود طرق غير العلم قد تفضي إلى معرفة الحق، بينما الغربيون يقصرون العلم على الظواهر الطبيعية، أما عندما يتعلق الأمر بالقيم والدين أو الإنسانيات فإنهم يرون هذه المواضيع غير علمية[6].
     أما التصور القرآني للعلم كما يفهمه الرجل والذي يصحح من خلاله هاتين النظرتين القاصرتين هو "أن العلم هو الذي يكشف الحق"[7]، لهذا وجب على المسلمين أن يصلوا إلى درجة الثقة الكاملة بالعلم، كما أن على الغربيين أن يدركوا دور العلم في مجال الدين والقيم لا في مجال الطبيعيات فحسب[8].
     يستدل الرجل على صحة تصوره من خلال استدراك مرتبة جديدة في الوجود على ما ذكره المناطقة والأصوليون[9] وهي مرتبة الوجود السنني، والمتمثل في وجود الشيء في علم وسنته قبل الوجود الخارجي له، وذلك مثل التفاعلات الكيمائية قبل حدوثها. والوجود السنني مطرد لا يتخلف ثابت لا يتغير، سواء في الظواهر الطبيعية أو حتى في الظواهر الإنسانية وهي بصمة الكاتب الخاصة في هذا الموضوع إذ أنه يضع ثقله كله في الدفاع عن علمية واطراد الظواهر الإنسانية.
     وقد حاول الرجل بعد ذلك أن يضع للعلم أسسا منضبطة بها يعرف وإليها يحتكم الناس، وأهم هذه الأسس هي:
1-لا علاقة بين السبب والنتيجة عقلا: ومقتضى هذا الأساس أن العقل لا قدرة له على ربط الأسباب بالنتائج قبل أن يشاهد هذا الارتباط في الواقع الخارجي، فالعلم هو القدرة على ربط النتائج بالأسباب بعد البحث والتجربة ومن ثمَّ يدركها العقل ويقوم بعملية الربط بينهما. ومما أضافه الكاتب في هذا الباب أن هذا القانون يصدق على الظواهر الإنسانية مثلما يصدق على الظواهر الطبيعية.
2-العقل ليس آلة بل وظيفة: بحيث لم يرد العقل في المصادر الإسلامية باعتباره جوهرا مستقلا بنفسه، وإنما باعتباره وظيفة قائم بغيره.
3-عدم وضع عالم الأشخاص محل السنن:يرى مالك بن نبي أن الطفل يمر بثلاث مراحل في إدراكه هي: عالم الأشياء ثم عالم الأشخاص ثم عالم الأفكار. فحاجة الطفل للتعرف على العالم يجعله يستعين بعالم الأشخاص، فيحل الآباء محل السنن، وهو نوع من الوثنية الدينية التي ينبغي التخلص منها عن طريق إنزال الأشخاص منزلتهم الحقيقية في الخبرات الإنسانية التي يجب أن تُقبل على أساس السنن لا على أساس الأشخاص.
     بعد ذلك يتطرق الكاتب لدليل العلم والذي هو في نظره شيئين:
-التنبؤ: هو القدرة على معرفة ما سيفعل في الأمر الثاني بناء على معرفة الأمر الأول المماثل له وشروط إنتاجه.
-التسخير: علم الإنسان بالسنن الكونية وأنها تتكرر ولا تتبدل أو تتغير فيستطيع أن يتدخل فيها ويوجهها إلى حيث تفيده[10].
    






[1] -جودت سعيد، إقرأ وربك الأكرم ص146.
[2] - نفسه ص4.
[3] -نفسه ص2.
[4] - نفسه ص2.
[5] -نفسه ص2.
[6] -نفسه ص6.
[7] -نفسه ص6.
[8] -نفسه ص6.
[9] - ذكر الإمام الغزالي في مقدمة كتابه المستصفى أن مراتب الوجود أربعة هي: الوجود العيني الخارجي- الوجود الذهني- الوجود اللفظي- الوجود الرسمي الكتابي. المرجع نفسه ص22
[10] -المرجع نفسه ص72-73.