الثلاثاء، 29 أبريل 2014

البشير الدامون سرير الأسرار

لقد قرأت بتأن ورويَّة رواية المبدع الألمعي السيد البشير الدامون "سرير الأسرار"، فوجدت حبكة روائية متقنة، ولغة فصيحة راقية، وارتباط عضوي "الإحالة على المثقف العضوي" بمعاناة المجتمع وقضاياه، لكن هالني تلك الصورة السوداوية القاتمة التي رسمها الرجل للوسط التطواني في المدينة العتيقة.
         صحيح أن جزءا من الصورة التي قدمها ترفع القناع وتميط اللثام عن أمراض "القاع" في مجتمعنا التي كثيرا ما ننكرها أو نغض الطرف عن وجودها حتى لكأنها خيال أو سراب لا يظهر إلا في أحلامنا العابرة، لكن في المقابل ليس صحيحا أن أفراد المجتمع يتوزعون ما بين موبوء أو مجذوم بل مازال في قاع المجتمع كما في صدارته بقية نصاعة ونقاء تحكم أسرنا وأشخاصنا، ولعل شخصية السي الأمين وكذا الفتى الرنكوني اليافع علي "يقطن بضواحي الرنكون" ص23 في الرواية المذكورة نماذج  للفضيلة والإنسانية المؤمنة بالقيم النبيلة، لكن ما ألاحظه على الكاتب هي تلك التعميمات الكثيرة والأحكام النمطية العامة التي سادت غالب روايته وطبعت شخصياتها المختلفة.

        لم أتمكن بعد من مشاهدة الفيلم المرتقب للجيلالي فرحاتي حول الرواية، ولست أدري كيف حاول أن يلامس التيمات الشائكة في الرواية ويقدمها ببراعته السينمائية المعهودة، أتمنى أن يكون قد وفق لذلك.   12/02/2014

السبت، 26 أبريل 2014

نظرات في كتاب " فيلسوف في المواجهة"
      "فيلسوف في المواجهة" كتاب للباحث عباس أرحيلة خصصه لمحاولة رصد ومقاربة مشروع الدكتور طه عبد الرحمان من بعض جوانبه، وذلك نظرا للحصار والإهمال الشديدين الذين طالا هذا المشروع في عالمنا العربي، كتاب أنهيت قراءته للتو بعد أن استغرقت في قراءته مدة ثلاثة أيام كاملة، و قد كنت أزمعت في البداية أن أخصص لقراءته أربعة أيام متواصلة غير أنني أجهزت على بقيته اليوم لَما وجدت صاحبه كان أوفق إلى الصواب وأسدَّ في التحليل والمعالجة للفكر الطهائي في الفصول الأخيرة منه في الفصول الأولى، فشدني إليه شدا ولم يرخ تلابيبي إلا في الصفحة الأخيرة منه.
      وقد وجدت الرجل في مؤلفه يكتب بعين الرضا ويصدر عن حماسة المناضل المنافح عن فكر د.طه ومشروعه الفلسفي -فهو لا يتواني في أن يعده د.طه "ألمع العقول في عالمنا الإسلامي العربي إبهارا وإبداعا.. وأكثرهم ابتكارا واختراعا وإنشاء، وأوحدهم في مواجهة مقلد العصر"[1]-، أكثر مما يقف موقف الباحث المحايد أو الناقد البصير الذي يُعنى بتحليل الخطاب وتفكيك المناهج واستنتاج الخلاصات والنتائج ثم يترك للقارئ حرية إصدار الأحكام.
      وقد أفضى هذا الصنيع بكاتبنا إلى الانتصار لصاحبه في مواقفه وأرائه جميعها ضد خصومه ممن ناصبهم طه عبد الرحمان الخصومة، بداية من ابن رشد والفلسفة الرشدية، وانتهاء بعبد الله العروي وفلسفته التاريخانية، مرورا بعموم الحداثيين والعقلانيين والدهرانيين الذين رماهم عن قوس واحدة وألقهم نفس الحجر. فنسب للرجل وفكره التجديد كله والتوفيق جميعه ونفى عنه كل إمكان للتقليد أو التبعية، وفي المقابل لمز خصومه بالتقليد وغمزهم بالتبعية دون تحفظ أو تمييز وأبعد عنهم كل إمكان للتجديد والاجتهاد. وأنا أسوق هنا شهادته في د.طه عبد الرحمان الكفيلة وحدها بكشف تصوره للمشروع الطهائي-كما يحلو له أن يعبر- حيث يقول على لسانه بكل فخر واعتزاز: "أنا طه عبد الرحمان من سيتولى مهمة الإبداع نيابة عنكم ! وأنا من ستعلمكم كتبي كيف تخرجون من كهوف التقليد، وكيف تنشئون فكرا مغايرا لغيركم... وكيف تواجهون العولمة وتفهمون الحداثة..."[2]. ولعلي لا أجانب الصواب إن زعمت أن  موقف الرجل هذا يلخصه بأمانة كبيرة قول الشاعر المشهور:
                  وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** لكن عين البغض تبدي المساوي.
      أشرت سالفا إلى كون المؤلف قد رهن مهمته في هذا الكتاب بالنظر فقط إلى بعض أوجه النشاط في المشروع الطهائي دون غيرها، وذلك من خلال التركيز على إبداعاته الفلسفية التي ميّزته عن بقية الفلاسفة العرب المحدثين "المقلدة"، الشيء الذي أدى بالضرورة إلى تصادم هذه الظاهرة الإبداعية الفريدة مع بقية المشروعات الفكرية الأخرى التي تعج بها الساحة الفكرية العربية، يقول صاحبنا: ".. سأكتفي هنا بمقاربة فكرتين اثنتين: الأولى النظر إليه باعتباره ظاهرة إبداعية في عالم الفلسفة، والثانية النظر إلى تصادم هذه الظاهرة بمتفلسفة العصر، ممن يُعدّون من أبناء جلدته"[3]. وهذا ما يحيلنا مباشرة على عنوان الكتاب "فيلسوف في المواجهة"، ويحيل أيضا على اللبنة الأولى في مشروع طه عبد الرحمان التي هي الهدم قبل البناء والنقد قبل الإنشاء، إذ مما لا شك فيه أن الرجل قد تفرغ في جزء غير يسير من أعماله إلى نقد المفاهيم الأساسية المشكلة للفلسفة الغربية المعاصرة والتي تبناها الفلاسفة والمفكرون العرب المحدثون وكرعوا من حوضها الآسن دون غربلة ولا تمحيص ، بله العمل على محاولة التأصيل أو إعادة التوطين وفقا للمجالات التداولية العربية والإسلامية، ومن أهم هذه المفاهيم: الحداثة والعقلانية والعلمانية وغيرها. وصنيع الرجل هذا حسب الكاتب يعتبر من بين أهم الأسباب التي جرَّت عليه نقمة الرشديين والتاريخانيين والحداثيين والعلمانيين مجتمعين.
      لكن ما ينبغي التنبيه إليه في هذه العجالة أن الوجه الصدامي لمشروع طه عبد الرحمان بالطريقة التي قدمه بها الكاتب وأوغل في نعته به لا يعكس الوزن الحقيقي لهذه القضية عند الرجل حسب رأيي، إذ أعتقد جازما أن اهتمام الرجل وانشغاله بتشييد أركان فلسفته وتأثيل بنيان مشروعه كان أهم، وإن برز في ثنايا ذلك نقضه لبعض المفاهيم التي ملئت الدنيا وشغلت الناس، فالأمر إذن لا يعدو أن يكون حلقة من حلقات النسق الفكري المحكم للرجل، لكنه لم يكن ليبلغ شطر مشروعه ولا نصفه بل هو إلى الأساس أقرب منه إلى البناء.
          ومن الملاحظات المثيرة التي شدّتَ انتباهي في تقريب صاحبنا لأفكار طه الرحمان هو الاختصار الشديد لها والإيجاز المخل لمقولات الرجل وجهوده الشيء الذي لا يتيح للقارئ تكوين فكرة مكتملة عن المشروع الطهائي، ففي معرض الحديث عن نقد د.طه لمفاهيم الحداثة والعقلانية ألمع إلى بعض النتف اليسيرة وأشار إلى بعض الشذارات العابرة واعتذر عن الباقي بدعوى عدم مناسبة المقام للإسهاب في بيان الكيفية التي نقض بها الأستاذ طه هذه المفاهيم، يقول في معرض بيانه لآليات النقد والتفكيك التي أعملها د.طه لتعرية مفهوم العقلانية بشقيها الديكارتي والكانطي: "ولا يمكن أن يتسع الحيز لبيان الكيفية التي انتقد بها العقلانية..."[4].
      ولعل صنيعه هذا لا يتناسب مع النسقية العامة التي نسجها في بداية كتابه والقاضية بالكشف عن الصدامات والمناكفات العلمية التي عرفها المشروع الطهائي مع المفاهيم الغربية بصفة خاصة، ومعلوم أنه من بين أهم المفاهيم التي أعمل فيها د.طه مشرط الفحص والنقض هو مفهوم العقلانية، فكان حري بصاحبنا أن يعطي للمصطلح حقه من حيث بيان الطرق والمناهج والآليات التي استعملها الرجل في معالجته عن طرق بيان مثالبه وإصلاح عواره.
      كما أنه عمد إلى عقد مقارنات بين مشروع طه عبد الرحمان التجديدي ومشروع عبد الله العروي التاريخاني وخلص من خلال ذلك إلى عدة استنتاجات كبرى، لكنه للأسف لم يعتمد في هذه المقارنة والنتائج المبنية عليها إلا على مؤلَفين يتيمين فقط، كتاب لكل واحد منهما يقول:" وسأحاول إن أشير باقتضاب إلى طبيعة منهج كل منهما، وما بينهما من فروق، ورأي كل واحد منهما في مجهود الآخر، اعتمادا على ما ورد في كتابيهما:
                   1-مفهوم العقل، مقالة في المفارقات. د. عبد الله العروي.
                   2-فقه الفلسفة-2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل. د.طه عبد الرحمان"[5]
      وهذا يعكس بوضوح مدى العمومية التي اتسمت بها هذه المقارنات والمفارقات بين المشروعين في هذا الكتاب، كما أنها تفسر بيسر التسرع الظاهر في إصدار جملة من الأحكام العامة التي ختم بها صاحبنا هذا الجزء من عمله في الكتاب حيث أنه في الوقت الذي بشر فيه بالأفق الرحب الذي ينتظر المشروع الطهائي فإنه حكم على مشروع العروي بالموت والإفلاس "وكانت نهاية التاريخانية"[6] حسب تعبيره. وكان حريا به أن يتأنى قبل إعلان هذه النتيجة التي تحتاج إلى مزيد تبين واستقصاء لكتابات الرجلين وفكريهما.
      عدا هذه الملاحظات السريعة فإنني قد استفدت من الكتاب أمورا كثيرة لا يسعني بحال إنكارها، فقد أضاء لي الكتاب الكثيرة من القضايا التي كانت ما تزال معتمة لدي في فكر طه عبد الرحمان، وأنار لي دروب القراءة الصحيحة للفلسفة الإبداعية الطهائية، ففقد وجدت الكتاب حسنا في بابه، جيدا في الإبانة عن المظاهر الإبداعية للفلسفة الطهائية، طيّبا في عقد المقارنات وكشف طرق المفاضلة بين مشروع طه عبد الرحمان وغيره من المشاريع والفلسفات الأخرى.
      ولا يسعني في الأخير إلا أحيي الرجل على جهوده المثمرة وسعيه الدؤوب لتقريب الفكر الطهائي من عموم القراء خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الصعوبات التي تكتنف فهم المشروع على حقيقته وكذا الإهمال والحصار المطبق الذي عانى منه.
            والحمد لله رب العالمين.
ظهيرة الثلاثاء 22 مارس 2014.




[1] -عباس أرحيلة، فيلسوف في المواجهة: قراءة في فكر طه عبد الرحمان. المركز الثقافي القومي،الطبعة الأولى 2013. ص7.
[2] -المرجع نفسه ص183.
[3] -المرجع نفسه ص8.
[4] -المرجع السابق ص154.
[5] -المرجع نفسه ص112.
[6] -المرجع السابق ص130.