الاثنين، 24 سبتمبر 2018

المختار بن عبيد الثقفي: مرآة العصر الأموي

المختار بن عبيد الثقفي: مرآة العصر الأموي.
علي حسني الخربوطلي

رغم أن الكتاب من المؤلفات الأولى التي خصصت حياة المختار بن عبيد الثقفي ببحث مستقل وربما قد يكون هذا الكتاب غير مسبوق في هذا الباب لكن الكتاب ضعيف جدا من حيث التحليل والمناقشة وقد أضعفته أمور عدة في نظري منها:
أولا: الكتاب عبارة عن عرض لسيرة الرجل من خلال المصادر التاريخية المعروفة، فلم يعمد كاتبه لا إلى تصحيح أقوال ولا مراجعة أفكار، وإنما عرض ما ورد في هذه الكتب كما هي بدون مناقشة ولا تحليل اللهم إلا إذا تحدثنا عن تصنيفها في مباحث وتقسيمها إلى أبواب وفصول.
ثانيا: في كل مبحث وفصل من فصول الكتاب يكرر المؤلِف بطريقة ظاهرة ممجوجة ما ذكره في الفصول السابقة الشيء الذي جعل الكتاب عبارة عن فصول مكررة ومباحث لا جديد فيها، يسأم القارئ من متابعته وينفر منه، ولا أظن أن قارئا مهما كان صبورا في قراءة الكتب يستطيع أن يتم الكتاب إلى آخره.
ثالثا: لم يأت الكاتب في بحثه بجديد يذكر في هذا الكتاب، باستثناء إفراد هذه الشخصية العربية الغامضة بالبحث والدراسة، ويكفي المرء أن يرجع إلى كتب التواريخ أو السير ويقرأ سيرة المختار دون أن يندم على أنه لم يقرأ هذا الكتاب.
رابعا: لم يحقق الكاتب في الإشكالات الحقيقية المرتبطة بشخصية المختار خصوصا ما تعلق منها بالتهم الثقيلة التي كالها له خصومه ومن بعدهم المؤرخين خصوصا المتعلق منها بالكذب أو إدعاء النبوة أو غيرها.
رابعا: اعتمد المؤلف كثيرا على أقوال المستشرقين في تحليل شخصية المختار ومواقفه دون تحقيق، والأخطر هو أن يعتمد عليهم في ذكر بعض التفاصيل التاريخية مع العلم أنهم إنما استقوها هم أيضا من المصادر التاريخية المتاحة التي يجب الرجوع إليها للتحقق.

حفيظ هروس. 24-09-2018.

الأربعاء، 29 أغسطس 2018

رواية الحدقي لأحمد فال ولد الدين

الحدقي أحمد فال ولد الدين.
        الحدقي رواية تسترجع نَفَس التاريخ من أجل تشريح الواقع وبناء المستقبل، يتداخل فيها التاريخ والحاضر ولا ينفكان، وهو شكل لافت في السرديات التخيلية العالمية التي سكَّت طريقها نحو الأعمال العربية في العقود الأخيرة، ولا أظن مُخيّلة قارئ الحدقي إلا أنها ستجنح به نحو استحضار بعض الكتابات المشاكلة لهذا العمل عند قراءته له، وليس غريبا أنه كان يحضرني باستمرار العمل الباذخ للتركية اليف شافاق "قواعد العشق الأربعين"، وهو العمل الذي أحسب أن كاتب الحدقي "أحمد فال ولد الدين" كان يستلهمه عند كتابته لروايته، وهذا أمر غير مؤكد بل فقط من وحي مخيلتي التي أملت عليّ هذا الاستنتاج الذي يمكن نعته بأنه استنتاج تخييلي، وأضيف إلى ما ذكرته أن الرواية في جانبها الأعم تندرج ضمن الرواية التاريخية التي اجتاحت السوق الأدبية العربية في الآونة الأخيرة ويكفي تتبع قوائم "البوكر العربي" لتدرك مدى الحجم الذي أصبح يحتله هذا الجنس الروائي ضمن السرديات العربية المعاصرة.
        الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما: أبو عمرو عثمان بن بحر المعروف بالجاحظ لجحوظ عينيه وقيل له أيضا الحدقي ومن هنا اسم الرواية، وهو شخصية تاريخية معتزلية معروفة "صاحب فنون وأدب، وذكاء بيّن" كما يقول الذهبي، هذه الشخصية التي يريد الكاتب أن يستلهم جزء من القيم المرتبطة بها لحاجة الوقت إليها، لذا فهي محور الرواية وعليها تدور، أما الشخصية الثانية فهو القروي صورة الجاحظ ومثله في زماننا، فهو كاتب سيرة الجاحظ في الرواية ومُبرز مُثله في النص والواقع، حيث يغدو النص بنوع من التأويلية الحَرفيّة مَعبرا سالكا نحو الواقع وطموحا جارفا نحو تجسيده.
        أثار الكاتب من خلال هذه الرواية وشخوصها جملة من القضايا المرتبطة بالإنسان والزمان العربيين المعاصرين مثل سطوة التقاليد والأعراف، وتكلس المجتمع الخليجي في جهله واغتراره بماله ورفاهيته، وأنه عند كل مأزق ونهاية يكون ميلاد جديد... وغيرها، لكنني سأخص هنا قضيتين فقط بالمناقشة والتحليل:
        لعل أهم هذه القضايا وأبرز ما في الرواية قضية العربية والعروبة، فالجاحظ العلامة الكبير والأديب البارز يظهر في الرواية كما كان في الواقع باعتباره المدافع عن العرب والعربية الكاره للشعوبية والمناهض لنزقها، في وقت أطلت فيها الشعوبية برأسها واشتدت حركتها، المناوئ لصديقه سهل بن هارون بسبب ممالئته للشعوبيين، فقد كان هذا الأخير شعوبيا يتعصب للعجم ويتعقب مثالب العرب، يُنسب إليه رسالة في البخل كتبها كما يقول البعض نكاية في العرب لاشتهارهم بالكرم، ولعل أغلب الشعوبيين كانوا من أصل فارسي بسبب ضياع الملك والجاه منهم بظهور الإسلام وغلبته كما في بعض المحاورات في الرواية بين الجاحظ وصديقه سهل.
        والشأن نفسه نلقاه في شخصية القروي الذي يوحي اسمه ابتداء بالأصل البدوي حيث معدن العربية وأصلها، وهو يعمل في قناة العروبة مدققا لغويا، يأنف من اللحن ويكره السطحية التي تمثلها الشخصية الخليجية أحسن تمثيل.
        ويأتي إثارة الكاتب لهذه القضية في سياق تراجع المد العروبي والعروبة قيّما ولغة في الواقع العربي:
        فأما القيم العربية التي ينعيها الكاتب كالشهامة والرجولة والأنفة فقد اجتاحها المد المادي والتوسع في الرفاهية التي أغرقت المجتمع الخليجي وأفرغته من محتواه القيمي، فلا شيء يعلو على المال وقيمه، والجاه وسلطانه.
        والشيء نفسه يقال عن اللغة العربية التي توارت إلى الظل ليس فقط في الاستعمال الدارج بين الناس ولكن أيضا في وسائل الإعلام التي لم يعد يهمها أن ترتفع بذوق السامعين إلى سموق العربية وجمالها بقدر ما تحرص على إرضاء ذوق العامة من الناس والوصول إلى أكبر عدد منهم، وهو ما كان يقلق القروي فاستنهض الجاحظ من قبره ليخوض به معاركه ويجدد للعربية عهودها المشرقة.  
        وقصد الكاتب فيما أظن هو أن يعيد للعربية مكانتها وللنَفَس العروبي مجده.
        أما القضية الثانية البارزة في الرواية فهي إحياء النقاشات الفكرية المرتبطة بالفرق الإسلامية خصوصا ما يتعلق بالمعتزلة وتاريخها، ولعلي لا أخطئ القراءة والتأويل إن قلت بأن قصد الرجل مزدوج:
        فهو من جهة يُثمّن التنوع والثراء الفكري الذي كانت تعيشه البصرة أيام الجاحظ حيث كانت الدولة العباسية في قمة مجدها أيام الرشيد والمأمون والمعتصم، وتظهر قوتها في شيئين اثنين:
أولا في التسامح الفكري الكبير الذي كان يطغى على الحياة الفكرية والأدبية آنئذ على العموم حيث تظهر البصرة سوقا كبيرة للأفكار والمذاهب والأديان المتدافعة والمتناظرة لا يحدها إلا الدليل والمعرفة.
وثانيا في الانفتاح الكبير للحضارة الإسلامية على الحضارات المجاورة واهتمامها بالعلم والمعرفة حيث نشطت الترجمة ونفقت أسواقها.
ومن جهة أخرى فهو يَعتب على المعتزلة فرض أرائهم بالقوة على الناس ويغمز الجاحظ من طرف خفي لما كان له دور لا يخفى في محنة علماء أهل السنة حسب متن الرواية.
        كأن الكاتب يتمنى أن تعود للحياة الفكرية في المجتمعات الإسلامية خصوبتها وطراوتها بعيدا عن المواقف "الدوغمائية" الحدية، وفي نفس الوقت يومئ بأنه لا يمكن لهذه الحياة أن تقوم أو تستمر بدون نفَس سياسي قائم على الحرية والاختيار.
        وفي الأخير لي ملاحظة خاصة على لغة الكاتب التي أرى أنه كان يكتنفها التكلف الذي يصل حد التقعر في أحيان كثيرة، ورغم أن أجواء الرواية وسياقاتها العامة تقتضي أن يوظف الكاتب جزء من المعجم الذي كان سائدا زمن الجاحظ فإن استرساله في مواضع كثيرة من روايته في تكلف التعابير وانتقاء الألفاظ يجعل القارئ يخرج من جلده ويشعر بنوع من الاغتراب.

حفيظ هروس 29-08-2018.

السبت، 30 يونيو 2018

الفيلسوف طه عبد الرحمن محاضرا حول موضوع: "الأوامر الإلهية والفلسفة الأخلاقية".

الفيلسوف طه عبد الرحمن محاضرا حول موضوع: "الأوامر الإلهية والفلسفة الأخلاقية".
وذلك يوم الخميس 29 مارس 2017م بكلية أصول الدين بمدينة تطوان.
حفيظ هروس- أستاذ باحث
        افتتح د.طه عبد الرحمن محاضرته بالتذكير بأساسين اثنين يقوم عليهما مشروعه العام، ولهما علاقة وثيقة بموضوع المحاضرة وهما:
-تأكيده المستمر ومنذ الإرهاصات الأولى لمشروعه أواسط السبعينات أن ماهية الإنسان إنما تتحدد أساسا بأخلاقه، وأن الأصل في هذه الأخلاق إنما هو دينه وحيا من ربه.
-اشتغاله منذ مدة غير يسيرة بنقد الفكر المعاصر في المجتمع الغربي الذي يفصل بين الأخلاق والدين أفضى به إلى الخروج من الأخلاق فضلا عن الخروج من الدين نفسه.      
         لكن الجديد يكمن في ظهور تيار فلسفي في الغرب مستقل عن التوجه العام يصل بين الأخلاق والدين ويقرر أن الأخلاق تابعة للدين، وأن إرادة الله هي الأصل في هذه الأخلاق، ناعتا لها بالإرادية الإلهية، وقد برز من هذا التيار فيلسوفان هما: روبر آدمز القائل بالنظرية الأمرية، وفيليب كوين القائل بالنظرية القصدية.
1-النظرية الأمرية عند روبرت آدمز Robert Adams )1937-1997(.
        يعتبر روبرت آدمز أن الإرادة الإلهية عبارة عن أوامر، وأن العلاقة التي تجمعها بالأخلاق هي علاقة مطابقة، أي أن الأوامر الإلهية مطابقة للأفعال الأخلاقية، فالأخلاق هي عين الأوامر الإلهية، وإذا كانت مفاهيم التكليف المرتبطة بالحلال والحرام تؤول عند د.طه إلى استبدالها بمفهومين آخرين هما: المعروف والمنكر فإنه يمكن بيان موقف هذه النظرية من هذين المفهومين كتجليات لمطابقة الأخلاق للأمرية الإلهية على الشكل التالي:
-أن )س( منكر، ف )س( مخالف لأوامر إله ودود.
-وأن )س( معروف، ف )س (موافق لأوامر إله ودود.
ولمزيد بيان لهذه النظرية أبدى فيلسوفنا ملاحظتين اثنتين هما:
-أن المطابقة التي تقول بها النظرية الأمرية ليست تحليلا دلاليا للفظ المنكر وإنما هي بيان لطبيعته وماهيته ذاتها، كما يُطابق عنصرُ الماء صيغتَه الكيمائية، بحيث أن المخالفة للأوامر الإلهية هي التي تحدد ماهية المنكر.
-أن آدمز أدخل قيدا نعتيا في التعريف هو "ودود" واصفا به الإله، تحت تأثير تراثه العقدي، وذلك قصد دفع الشبه والاعتراضات على تعريف سابق له للمنكر دون هذا القيد، وبهذا القيد يصير مستحيلا في حق إله ودود أن يأمر بالمنكر في أي عالم ممكن.
        ثم أورد الأستاذ المحاضر على هذه النظرية انتقادين اثنين عبارة عن آفتين وقعت فيهما النظرية الأمرية هما:
-الآفة الأولى سماها تشبيه الصلة بالله بالاجتماع البشري، ذلك أن المعتقدين الدينيين: التجسيد وخلق الإنسان على صورة الإله حجب الفلاسفة المسيحيين عن تحصيل تصور تنزيهي للألوهية، وتحت تأثير هذين المعتقدين فإن آدمز غالى في تشبيه الأمرية الإلهية بالأمرية الإنسانية بحيث أن علاقة الإله الأمرية بنا هي علاقة ذات طابع اجتماعي صريح.
-الآفة الثانية هي تجزيء الصفات الإلهية، فآدمز لا يعتبر الكمالات الإلهية تنزل منزلة واحدة بل يفرق بين رتبها ولوازمها، ويقدم ثلاث قيم أساسية هي: الود والخير والعدل.
2-النظرية القصدية عند فيليب كوين Philp L. Quinn )1940-2004(.
        يرى هذا الفيلسوف أن النزاع في مسألة المنكر والمعروف ينبغي حسمه لا على مستوى ظاهر الأوامر وإنما على مستوى باطن الإرادة الإلهية التي هي عنده بالذات القصد، وقد بنى نظريته القصدية على تفريقين أساسين هما:
-أحدهما التفريق بين معنيين للقصد: فهناك القصد بالمعنى العام الذي يتجه إلى كل المقاصد الأخلاقية الضرورية وغير الضرورية، وهناك القصد بالمعنى الخاص وهو القصد إلى الفعل مع عدم اعتبار ضده، ولا يتعلق إلا بالمقاصد الضرورية.
-التفريق الثاني، وهو ناتج عن التفريق الأول، حيث ميَّز كوين بين القصد الإلهي السابق والمراد به هو أن يقصد الإله أن يأتي المكلف الفعل ولمّا يمارس المكلف اختياره في إتيان هذا الفعل، والقصد الإلهي اللاحق وهو أن يقصد الإله كل ما يتصل بالفعل بعد ممارسة المكلف لاختياره.
        بعد ذلك يُسند كوين إلى القصد الإلهي صفة أساسية وهي السبب، بحيث أن القصد الإلهي للفعل هو السبب في وجود صفته الأخلاقية، ولذلك:
        فلا وجود للمنكر إلا بوجود القصد الإلهي لتحريمه
        ولا وجود للمعروف إلا بوجود القصد الإلهي لإيجابه.
        وتفاديا لكل لبس ورفعا لكل إشكال أعاد الأستاذ المحاضر صياغة تعريف كوين على النحو التالي:
        إن المنكر عبارة عن الفعل الذي يجعله سابق القصد الإلهي منكرا،
        كما أن المعروف هو عبارة عن الفعل الذي يجعله سابق القصد الإلهي معروفا.
ولمزيد بيان لهذه النظرية أبدى فيلسوفنا بعض الملاحظات في وجوه المفاضلة بين النظرتين:
-أن الأمر الإلهي حسب كوين تابع لقصده، والمتبوع أفضل. فمن المحال أن يأمر الإله بما لا يقصد، بينما قد يقصد الإله ما لا يأمر به. فتبعية الأمر الإلهي لقصده يجعل في الإمكان البرهان على دعاوى تكليفية مقررة لا تستطيع أن تبرهن عليها النظرية الأمرية.
-أن أصحاب النظرية القصدية لا يقسمون الصفات الإلهية بالطريقة التي درج عليها أصحاب النظرية الأمرية بل يعتبرون أن الصفات الإلهية معارضة للصفات الإنسانية لهذا يسمون الصفات الإلهية كمالات بينما يسمون الصفات الإنسانية أخلاقا.
        ثم أورد الأستاذ المحاضر على هذه النظرية انتقادين اثنين عبارة عن آفتين وقعت فيهما النظرية القصدية هما:
-الآفة الأولى وهي تشبيه شؤون الإله الباطنة بالأحوال النفسية للإنسان ناسبة للإله العقل والاعتقاد كما يُنسبان إلى الإنسان، وقد مهدت هذه النظرية السبيل لظهور نظريات أخرى تقول بالحالة الذهنية للإله تشبيها بالحياة الذهنية للإنسان...
-الآفة الثانية وهي تجزيء الأفعال الإلهية بحيث وقعت هذه النظرية في تبعيض الإرادة الإلهية، فالإرادة الإلهية عند كوين وأصحابه تنقسم إلى إرادتين: إرادة تكليف وإرادة تقييم، وكل منهما ينقسم إلى أنواع ونعوت.
3-الفلسفة الائتمانية.
        أمام الاعتراضات والشبهات التي وردت على كل من النظرية الأمرية والنظرية القصدية كان لابد من وجود نظرية أخلاقية جديدة تدفع هذه الشبهات والآفات، وكذلك تفسح المجال واسعا لآفاق فلسفية رحبة لا تتيحها ولا تتسع لها النظريتان السابقتان، هذه النظرية هي الفلسفة الائتمانية، وخصوصية هذه الفلسفة من وجهين:
-الوجه الأول أنها تصل بين روح الدين روح التفلسف:
        فروح التدين عند فيلسوفنا هو الإحسان، ورتبة الإحسان توجب انتقال المكلف من ظاهر الأعمال إلى باطنها محوِّلا هذه الأعمال إلى آيات تكليفية لا مجرد أشكال شرعية.
        أما روح التفلسف فهو عنده -في هذا المقام- هو فعل التفكر، وهو فوق رتبة التفكير، إذ يوجب التفكر انتقال العقل من ظاهر الأشكال إلى باطنها، جاعلا من هذه الأشياء آيات تكوينية لا مجرد ظواهر طبيعية.
-الوجه الثاني أنها تستثمر في الوصول إلى معرفة هذه الآيات التكليفية والآيات التكوينية الدلالات البعيدة للميثاقين الذين أخذهما الله على الإنسان وهما: ميثاق الإشهاد وميثاق الأمانة.
        ثم انتقل الأستاذ المحاضر لبيان خاصية التعريف الائتماني لتبعية الأخلاق للأوامر الإلهية:
        فإذا كانت النظرية الأمرية قد حددت هذه التبعية في كونها علاقة تطابقية، جاعلة المسؤولية الأخلاقية تنشأ عند تلقي الأوامر الإلهية،
        وإذا كانت النظرية القصدية قد جعلت المسؤولية الأخلاقية تنشأ عند تبين القصود الإلهية،
        فإن النظرية الائتمانية تجعلنا ندرك بموجب ميثاق الإيمان أن المسؤولية وقعت على الإنسان قبل تلقي الأوامر الإلهية وقبل تبين القصود وذلك عندما مارس الإنسان اختياره الأول في تحمل الأمانة، فالاختيار هو أساس المسؤولية، وبذلك أصبح الائتمان هو الأصل في تحديد تبعية الأخلاق للأوامر الإلهية، وعليه تقدم الفلسفة الائتمانية تعريفها لكل من المعروف والمنكر على الشكل التالي:
        فالمنكر هو عبارة عن الفعل الذي ائتمَن الإلهُ الإنسانَ على تركه
        والمعروف هو عبارة عن الفعل الذي لم يأتمن الإله الإنسان على تركه.
وتلزم عن هذين التعريفين الائتمانيين نتائج هامة قررها د.طه في خمس هي:
1-أن كل فعل إما مؤتمن على تركه أو غير مؤتمن على تركه.
2-أن الحرام هو المنكر، إذ هو الفعل الذي اؤتمن على تركه، وأن الواجب هو الفعل الذي اؤتمن على عدم تركه.
3-أن الواجب جزء خاص من المعروف لأن الفعل الذي لم يؤتمن على تركه أعم من الفعل الذي اؤتمن على عدم تركه.
4-أن بعض الأفعال يكون معروفا وواجبا معا، إذ ليس فقط أنه لم يؤتمن على تركه بل أيضا اؤتمن على عدم تركه.
5-أن المباح هو عبارة عن الفعل الذي لم يؤتمن على تركه ولا اؤتمن على عدم تركه.
         وهذه النتائج تجعل من النظرية الائتمانية توفي بلوازم النظريتين محل النقاش معا، مع زيادة الالتفات إلى المباح الذي لم يهتموا به، بل أكثر من هذا لا توفي النظرية الائتمانية بلوازم التعريفين فقط بل يستوعب تعريفها لكل من المعروف والمنكر بمضمون الصيغة التعريفية لهما في النظريتين معا، وبيان ذلك على النحو التالي:
        ذلك أن التعريف الأمري يجعل المنكر راجع إلى عصيان الأمر الإلهي، ويجعل المعروف راجع إلى امتثال الأمر الإلهي، بينما الأصل في الائتمان أنه يوجب الامتثال. كما أن التعريف القصدي يجعل المنكر راجعا إلى كون الإله خلق وجوب الترك، ويجعل المعروف راجعا إلى كون الإله خلق وجوب عدم الترك، بينما الأصل في الأمانة أنها عبارة عن أفعال مخلوقة للإنسان بحيث تكون كسبا له إذا كانت معروفا أو اكتسابا عليه إن كانت منكرا.
        ولا يفي التعريف الائتماني بفضائل تعريف النظريتين السابقتين للمنكر والمعروف حسب د.طه بل إن تبعية الأخلاق للأوامر الإلهية تبرز في التعريف الائتماني بما لا تبرز فيه في التعريفين السابقين، وذلك أن هذه التعريفات تختلف باختلاف صور العلاقة بين الطرفين يترتب عليه اختلاف في طبيعة الطرفين:
        فالعلاقة الأمرية تربط بين طرفين هما الحكم الأخلاقي للفعل والأمر الإلهي، فالعلاقة هي بين فعلين، ولما كان هذان الفعلان متطابقين في هذه النظرية لزم عنه أنها علاقة الفعل بنفسه، أما العلاقة القصدية فقد ربطت بين الحكم الأخلاقي للفعل وبين ذات فاعلة هو الآمر الناهي، فهي علاقة بين ذات وفعلها، بينما في العلاقة الائتمانية نجد العلاقة هي بين مؤتمِن ومؤتمَن، فهي علاقة بين ذاتين: الذات الإلهية الآمرة والذات الإنسانية الطائعة، وبهذا تفضل الفلسفة الائتمانية على النظريتين السابقين ومما يُظهر ذلك:
-أن منزلة الذات تعلو منزلة الفعل.
-فضل معرفة الآمر على معرفة الأمر: ذلك أن النظرية الأمرية لا تهتم إلا بالأفعال، والنظرية القصدية لا تهتم إلا بالقصود، أما النظرية الائتمانية فبموجب وصلها بين الذاتين الإلهية والإنسانية تعتبر أن الذات الإنسانية تحتاج في إتيان أفعالها إلى معرفة الذات الإلهية التي ائتمنتها على هذه الأفعال.
-فضل التعامل الشهودي على التعامل الغيابي: ذلك أن التعامل في النظرية الأمرية لا تحضر فيه إلا الأفعال وتغيب فيه الذات الإلهية وذات الإنسان فيكون تعاملا غيابيا كليا، كما أن التعامل في النظرية القصدية لا تحضر فيها إلا الذات الإلهية وتغيب فيه ذات الإنسان فيكون تعاملا غيابيا جزئيا، بينما التعامل في النظرية الائتمانية تحضر فيه الذاتان معا: الذات الإلهية والذات الإنسانية باعتبارهما ذاتين فاعلتين، فيكون هذا التعامل تعامل شهودي صريح.
         وبناء على هذا الفضل الذي تتمتع به الفلسفة الائتمانية يمكن اعتبار التبعية الائتمانية هي الأصل الذي تتفرع عنه كل من التبعية الأمرية والتبعية القصدية بطريق التجريد أو طريق الانتزاع، بحيث أن التبعية الأمرية انتزعت الأفعال من الذاتين الإلهية والإنسانية بينما التبعية القصدية انتزعت الأفعال من الذات الإنسانية.
        بعد ذلك انبرى الفيلسوف طه عبد الرحمن للرد على الآفات التي وقعت فيها النظريتان معا:
-النظرية الائتمانية تنزه الإله تنزيها مطلقا، لأن القول بالتشبيه نقص في العقلانية والقول بالتنزيه تحقق بها، فلا أقدر على التنزيه من النظرية الائتمانية لأنها تتأسس على ميثاق الإشهاد، وترفض التشَّبُه بالإله الذي توسلت النظريتان السالفتان وتقول في المقابل بالتقرب الذي يؤدي إلى اكتساب فضائل وإن شابهت أسماؤها الصفات الإلهية فإنها تبقى تباينها مباينة مطلقة.
-النظرية الائتمانية تنفي أن يحصل التقرب بغير الأوامر الإلهية لأن هذه الأوامر محبوبة للإله.
-القيم التي تنطوي عليها الأوامر الإلهية مأخوذة من الصفات الإلهية، بحيث أن الصفات الإلهية هي أصل كل القيم. كما أن الفطرة الإنسانية تحمل قدرا معتبَرا من هذه القيم الصفاتية فجاءت الأوامر الإلهية على وفقها، بحيث لا يأمر الإله إلا بما يوافق صفاته الحسنى.  
-أن النظرية الائتمانية ترجع إلى الاختيار الأصلي في تحديد المسؤولية والذي كان قبل الأوامر وقبل تبين القصود.
-كون النظرية الائتمانية تقر بالشهود بمعنى الحضور مع الحضور، لأنها ترى أن العلاقة الأصلية بالإله ليس منشؤها ظاهر العالم الذي يستغني بالأوامر المسموعة وإنما هو باطن العالم الذي لا تؤويه إلا القصود المشهودة، أي عالم الملكوت حيث حصّل الإنسان القصد الأول وكذلك حصّل الشهود الأول.
-ثم هناك مسألة علاقة الأمر بالواجب: هل الفعل واجب لأن الإله أمر به أم أن الإله أمر به لأنه واجب، فإذا كانت النظريتان قد تخبطتا في مناقشة هذا الإشكال الفلسفي إذ تفرقان بين الجانب التكليفي والجانب التقييمي بشكل تعسفي فإن النظرية الائتمانية لأخذها بالميثاقين فإنه يزودها بمنظورين متكاملين هما:
·  المنظور الإشهادي الذي يزودنا به الميثاق الإشهادي، وهو منظور شهود الإنسان لصفات الإله، وهذا المنظور هو الذي ورَّثه القيم وحملها في فطرته.
·  المنظور الائتماني الذي يزودنا به الميثاق الائتماني، وهو منظور شهود الإنسان للأوامر الإلهية، وهذا الشهود هو الذي يقفه على الأوامر الموافقة لهذه القيم. وقد أشار الأستاذ المحاضر أنه بسط الكلام في ذلك في كتابه "دين الحياء".
        وجوابا على الإشكال المطروح فإن الفلسفة الائتمانية تجيز للمكلف أن يتوسل بأحد المنظورين الملكوتيين في التعامل مع المنظور الآخر، فمتى توسل المكلف بالمنظور الائتماني في التعامل مع المنظور الإشهادي صار إلى تقديم الأمر التكليفي على القيمة الأخلاقية، أما إذا توسل بالمنظور الإشهادي في التعامل مع المنظور الائتماني صار إلى تقديم القيمة الأخلاقية على الأمر التكليفي. كما أن هذه النظرية تقدر على أن تفسر أن التعامل بأحد  هذين المنظورين لا يكون ناتجا عن غفلة أو نسيان وإنما يكون نتيجة ارتقاء في مراتب الإيمان، كالمتمسك بالمنظور الائتماني تحققا بوصف العبدية، أو المتمسك بالمنظور الإشهادي تحققا بوصف الحرية، والعبدية والحرية هنا وجهان لحقيقة واحدة وهي أن المكلف لم يعد قائما بنفسه وإنما قائم بربه.


الخميس، 3 مايو 2018

شعر الفقهاء بين ابن خلدون وعبد الله كنون.
      قرض الكثير من الفقهاء وأمثالهم من العلماء في تخصصات شتى كاللغويين والمتكلمين الشعر، ونظموا الكثير من القصائد والمقطّعات، وقد استعملوا الشعر والقريض لأغراض كثيرة، فبالإضافة إلى كونهم اعتبروه وسيلة تعليمية فكتبوا المنظومات المختلفة قصد تقريب العلم إلى التلاميذ والطلاب، وتسهيل حفظ مسائله وتذكر قواعده، أو عقدوا أشعارهم في بعض الأحاديث والآثار من مثل ما جمعه السيوطي في جزء خاص سماه "الازدهار في ما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار" وغيره، فإنهم أيضا لامسوا الأغراض الشعرية الخالصة في أشعارهم كالنسيب والمدح والفخر والرثاء وغيرها، لكن الكثير من النقاد شغبوا عليهم، ولمزوا شعرهم بالضعف ورموا عملهم بكل نقيصة، وعبارة ابن بسام مشهورة في الباب: "إن شعر العلماء ليس فيه بارقة تسام"، لكنني خصصت الكلام هنا عن العلامة عبد الرحمن بن خلدون لقوة عارضته في التعليل، وقدرته على فتق أسباب ذلك والإبانة عن المقصود، لهذا اتخذ كلامَه مرجعا كلُ من طرق الموضوع بعده سواء بالنقد أو التأييد، كما أنه يظهر لنا وجها آخر من وجوه إبداع ابن خلدون في النقد والتحقيق باعتباره هذه المرة ناقدا أدبيا رفيعا.
       يقول ابن خلدون "كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين عن البلاغة" لهذا غالبا ما نجد شعرهم "ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب" (المقدمة 496). ثم ذكر قصة مشهورة أصبحت مرجعا في الباب، مفادها أن أبا القاسم بن رضوان أنشد قصيدة لابن النحوي على أبي العباس الجزنائي كاتب السلطان أبي الحسن المريني دون أن ينسبها له ومطلعها:
      لم أدرِ حين وقفت بالأطلال **  ما الفرقُ بين جديدها والبالي.
      فقال له على البديهة: "هذا شعر فقيه" فقلت له" من أين لك ذلك؟ قال من قوله: "ما الفرق، إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب". (المقدمة 496).
      ومحصّل تفسير ابن خلدون لهذا الضعف المتأصل في الفقهاء في باب الشعر هو ما سبق إلى محفوظهم من "القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة"، بحيث كلما تمكنت منهم اللغة الفقهية الصناعية في أول أمرهم قصرت بهم عن تحصيل ملكة البلاغة ورعاية الأساليب التي اختصت العرب بها الشعرَ واستعملتها فيه. (المقدمة 489)، ويقصد بهذه الأساليب "هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورته" (المقدمة 491) أو قل هو "المنوال الذي تُنسج فيه التراكيب" (المقدمة 489)، ومَردّ إدراك هذا التعليل هو ربطه بمذهبه في تفسير الكثير من الظواهر الإنسانية مثل تعلم العلوم واللغات والصناعات المبني عنده على قاعدة ذهبية وهي "أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى" (المقدمة ص468)، وأمر آخر يجب الانتباه إليه ليتسنى لنا فهم وإدراك حكم ابن خلدون على شعر العلماء والفقهاء وهو مفهوم الشعر عند الرجل، فهو عنده ليس مجرد كلام موزون مقفى كما درج النقاد القدماء على تعريفه بل هو بالإضافة إلى ذلك "الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف... الجاري على أساليب العرب المخصوصة به" (المقدمة 492) وعليه فليس كل ما كان من الكلام منظوما يسمى شعرا بل شرطه أن يجري على أساليب العرب الشعرية وإلا كان نظما. 
      لكن رأي ابن خلدون لم يكن مسلما دائما، فرغم أن الكثير من المترجمين وأصحاب الطبقات المختلفة والعديد من النقاد كانوا يغمزون شعر الفقهاء من طرف خفي عندما كانوا ينعتونه في تراجم وسير هؤلاء بقولهم "هذا شعر فقيه" كما فعل صاحبنا الجزنائي فإن هناك آخرين عارضوا الأمر وبادروا إلى إثبات خفة هذا الحكم وبطلانه، فألفوا المطولات لتفنيد هذا الرأي مثل كتاب حسني ناعسة "شعر الفقهاء: نشأته وتطوره حتى نهاية العصر العباسي الأول"، وكتبوا الرسائل الجامعية التي خصصوها بفترة زمنية معينة أو جهة جغرافية محددة، بل وأنتجوا البرامج الإذاعية مثل البرنامج الماتع "فقهاء أدباء" للدكتور عادل باناعمة وغيرها، لكنني خصصت الحديث هنا عن صنيع عبد الله كنون في كتابه "أدب الفقهاء" لأنه فقيه وأديب شاعر جمع بين الشأنين فرُدَّت على الأمر أقاصيه كما يقولون.
      كتب عبد الله كنون كتابه المذكور لإنصاف شعر الفقهاء والمحاماة عنه، وقصده البعيد هو أن تستوعب الدراسات الأدبية هذا النوع من الأدب والشعر وألاَّ تظل حكرا على المنتخبات المعروفة والأسماء الرسمية. (أدب الفقهاء 4)، كما أنه يشير إلى أن الشاعرية تحتاج إلى الملكة "وهي الاستعداد النفسي الذي ينميه الحفظ وتصقله الممارسة" (أدب الفقهاء 8)، وهي عنده غير الذوق الذي هو معيار النقد، وعليه فليس كل ناقد للشعر شاعرا كما أنه ليس كل ناقد للأدب أديبا، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد من يجمع بينهما مثلما لا يعد غريبا أن يجمع المرء بين الفقه والشعر، لهذا لم يكن مستحسنا من الجزنائي أن يَسم شعر ابن النحوي بأنه "شعر فقيه" لمجرد كلمة وردت فيه، وعليه ف"الحكم الصائب في هذه المسألة هو أن المدار على وضع الكلمة أو المصطلح في الجملة أو الفقرة التي تتضمنها، فإن كان ذلك مما لعب فيه الذوق النفسي دوره وأداه بعناية كان مقبولا ومستحسنا وإلا بأن تقلقلت العبارة وضاقت باللفظة المقتبسة فإن من حق الناقد أن يدين الأثر الأدبي الذي يقع في هذا المحظور" (أدب الفقهاء 13).
       بعد ذلك توسع الرجل في إيراد الأدلة المختلفة، وسوق الشواهد المتعدد على شاعرية الفقهاء في الأغراض الشعرية المعروفة أو فيما تميز به الفقهاء وقلَّ نظيره عند المطبوعين من الشعراء. ومن الأدلة التي أوردها في مرافعاته منها ما ناقض بها استدلال ابن خلدون واستنتاجاته في المسألة:
-فقد استدل على نقد كلمة الجزنائي  بشعر أبي الطيب المتنبي الذي يعتبره "شاعر العرب الأكبر"، وبيّن كيف أن سموق شاعرية المتنبي وفحولته لم تمنعه من إيراد بعد الكلمات في شعره التي قد تفهم على أنها من عبارات الفقهاء واصطلاحات النحاة، لكن هذا الدليل لا يفت من عضد دعوى ابن خلدون ولا ينقضها لأنه لا يعتبر نظم المتنبي ومثله نظم أبي العلاء المعري من الشعر في شيء "لأنهما لم يجريا على أساليب العرب" (المقدمة 492)، والغريب أن هذا ليس حكم ابن خلدون وحده بل هو رأي نقله عن شيوخه في الصناعة الأدبية الذين كانوا "يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية.. فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر" (المقدمة 493) ودليلهم الحاكم في ذلك هو الذوق.
-وكذلك استدلاله بالربانيات والنبويات التي أبدع فيها الفقهاء وجاءوا فيها بما لم تأت الأوائل من الشعراء ولا الأواخر وخصوصا ما يسميه صاحبنا بشعر السيّر الذي جاء أقرب ما يكون إلى الشعر القصصي كبردى البصيري وهمزيته "فإنها وإن كانت تعتمد المادة التاريخية في مضمونها، لا تألو جهدا في استخدام الخيال وتجسيم الصور وإثارة العواطف" ثم إن "هذا اللون الطريف من أدب الفقهاء يكون بابا من الشعر لم يطرقه غيرهم من الأدباء" (أدب الفقهاء 16)، لكن رأي ابن خلدون في هذا اللون من الشعر مناقض لما ذهب إليه كنون، ذلك أن من معايير نزول الشعر عن مرتبة البلاغة عنده أن يطرق فيه الشاعر المعاني المبتذلة والألفاظ المتداولة كما هو الشأن في الربانيات والنبويّات التي لا يحذق فيها إلا الفحول. (المقدمة 493)
      وعليه فإننا نميل من جهة النظرية إلى رأي كنون في أن العبرة بحضور الملكة في الشعر سواء كان قائله فقيها أو غير فقيه ولا يمكن الغض من مكانة الشعر لمجرد أن قائله فقيه لأنه حكم تنفر منه الطباع السليمة والذوق الرفيع، لكن ملاحظة ابن خلدون من الناحية الواقعية كانت ثاقبة لأن أغلب أشعار الفقهاء لا كلها فقيرة من حيث الصور الشعرية والإيقاع الموسيقي ورسوم البلاغة العربية، وذلك لأن معظم شعرهم استهلكته موضوعات الحكمة والأخلاق وأغراض التعليم.
      وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نردد مع الزهاوي :
      إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ** فليس خليقا بأن يقال له شعر.
حفيظ هروس 3/5/2018

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

المتلمس الضبعي: الشاعر الثائر.

المتلمس الضبعي: الشاعر الثائر.
     المتلمس الضُبَعي شاعر جاهلي مُقل، لكنه ذو أنفة وعزة، صاحَبَ في بداية أمره الملك عمرو بن هند لكنه جفاه بعد ذلك لما تيّقن ظلمه وجوره، وعاش بعيدا عن وطنه غريبا منفيا، ولكن بكرامة وعزة نفس.
     ولعل السبب في هذه الجفوة وما تلاها من البلاء والمحنة هو الإباء وشموخ النفس وتعاليها عن قبول الضيم والرضوخ للمذلة التي عُرف بها هذا الشاعر الثائر، وقد عبّر في أشعاره بقوة عن هذا المعانى فأجاد وأفاد، فمن ذلك قوله لقومه مستنهضا لهم:
     ولن يُقيم على خسفٍ يُسامُ به ** إلا الأذلاَّن عيرُ الأهلِ والوتدُ
     هذا على الخسفِ مربوطٌ برمَّته   **  وذاك يُشجَّ فما يَرثي له أحدُ[1].
وقوله أيضا:
     فلا تَقبلَنْ ضيما مخافةَ ميتَةٍ  **  ومُوتَنْ بها حرا وجلدك أملس[2]  
     فما الناسُ إلا ما رأوا وتحدثوا  **  وما العجز إلا أن يُضاموا فيجلسوا[3].
ويصف حاله وحال قومه في الثورة ضد الجبابرة الطغاة:
     وكنا إذا الجبارُ صعَّر خده  **  أقمنا له من ميله فتقوَّما[4].
     والمتلمس ليس في هذا الباب شاذا ولا منفردا بل له أنداد وأمثال كثر، فالمطلع على أحوال العرب وأخبارهم قديما يجد أن من بين مكارم الأخلاق التي كان العربي القح يتحلى بها هي رفض الضيم والظلم، فقد كان يؤثر أن يعيش في الصحراء حرا طليقا رغم شظف العيش وخشونته على أن يقع في الأسر ويكون عبدا ذليلا لغيره.
     وأظن أن السبب الرئيس في ذلك هو عراقة العرب في البداوة وخشونة العيش، وتوغلهم في الصحاري والقفار حيث ألفوا الحرية والشجاعة وأنفوا من الدعة والهوان، وقد أجاد ابن خلدون وصف ذلك وتحليله في مقدمته، وأضاف أن نقيض ذلك من وجوه الحضارة والترف والانغماس في النعم مُذهب لسورة الغضب، مُتلف لأخلاق الإباء والنخوة، وقد يكون هذا النقيض هو الداء العضال الذي ينخر نفوس الكثير من العرب اليوم لاستكانتهم للاستبداد وقبولهم بالذل والصَغار.



[1] -ديوان المتلمس الضبعي، تحقيق: حسن كامل الصيرفي. ص211.
[2] -أي لم يصيبك عار
[3] -ديوان المتلمس ص111.
[4] -الديوان ص24.

الجمعة، 5 يناير 2018

د.محمد المزوغي في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح ملاحظات عامة.

د.محمد المزوغي
في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح
ملاحظات عامة.
حفيظ هروس
     يمكن القول أن هذا الكتاب ينتمي لحقل "نقد نقد الاستشراق"، فمنذ صدور كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، ومن قبله مقال أنور عبد الملك الذائع الصيت "الاستشراق في أزمة" انبرى العديد من الكتاب من اتجاهات فكرية مختلفة للدفاع عن الاستشراق ودحض أقوال نقاده، وقد همّت هذه الحركة الضد نقدية المستشرقين أنفسهم في البداية، فقد حاول الكثير منهم تبرير أعمالهم، والدفاع عن التقاليد البحثية التي ترسّخت عبر القرون في الحقول الاستشراقية المختلفة، ونجد من بين هؤلاء المستشرقين فرانسيسكو غابريلي وماكسيم ردونسون والبرت حوراني وغيرهم، ورغم دفاعهم المستميت عن التوجهات العامة للاستشراق، ونبل مقاصده المنبنية على فضيلة "الفضول المعرفي" في نظرهم، فقد اعترفوا هم أنفسهم بوجود العديد من وجوه القصور في دراساتهم. وقد سار على منوال هؤلاء المستشرقين وسلك مسلكهم الكثير من المفكرين العرب أمثال صادق جلال العظم ومهدي عامل اللذين تعتبر كتابتهما من أمتن البحوث في الباب.
     وعليه يمكن القول إجمالا أن محمد المزوغي ينتمي إلى هذه الفئة من المفكرين التي حاولت تفكيك بنية المدرسة الضدية في الاستشراق التي عملت على فضح أغراضه الاستعمارية، ونسف بناءاته العنصرية، ودحض مقولة المركزية الأوروبية في الدراسات الاستشراقية من خلال سبر أغوارها، والاطلاع العميق على مناهجها وأفكارها.
     وهكذا فقد انصبت مجهودات الرجل في هذا الكتاب على نقد موقف أركون وتلامذته من الاستشراق عموما، والمنهج الفيلولوجي على وجه الخصوص، فهو يعتبر أن الانخراط الواعي أو غير المقصود في نقد الدراسات الاستشراقية وبيان تهافت قراءاتها، وكذا التقليل من أهمية المنهج الفيلولوجي بزعم الدعوة إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية يصبُّ في مصلحة الرجعيين في العالم العربي وعلى رأسهم الإسلاميين، ويقوي مراكزهم، ويدعم نفوذهم الفكري والسياسي، الشيء الذي يجعل من هذه القراءات النقدية تقع في تحالف موضوعي مع هؤلاء الرجعيين الذين لا يتوانى عن وصفهم بالإرهاب والعمالة. يقول في هذا الصدد: "إن أركون وصالح هما مثال عيني صارخ لما آلت إليه حالة الثقافة العربية الراهنة من بؤس وتقهقر جراء التحالفات المريبة... بين مفكرين علمانيين... وبين طغمة الإسلاميين في كفاحهم ضد الاستشراق وتشويه سمعة المستشرقين"[1].
     كما أنه يعتبر من جهة أخرى أن هذا النقد يؤدي إلى إذكاء نَزاعات الغلو والتطرف، وهو ما قام به محمد أركون أحسن قيام في نظره، يقول: "ساهم أركون بمعية مثقفين عرب آخرين من أمثال المؤرخ التونسي هشام جعيّط ومن قبله أنور عبد الملك في هذا الدمار، بحيث كل الذين نقدوا الاستشراق الأكاديمي والفيلولوجيا وكل من أدلى بدلوه بحسب الطاقة والوسع في هذه المعركة اللابطولية ذكّى الغلو والإرهاب"[2] .
     بناء على ذلك فإنه يصب حمم غضبه على محمد أركون وتلامذته الذين غرقوا في وحول هذه الخطيئة العلمية التي لا تغتفر "لقد بيّنت في كتابي هذا أن العدو الأوحد لأركون وصالح هما الاستشراق والفيلولوجيا"[3]، كما أنه اعتبر أن هذا الطعن "العشوائي" الذي جذّره أركون كانت له نتائج كارثية[4].
     والمتتبع لأحوال الرجل في عمله ونقده نجده يتكئ على منطلقات مضمرة غير سليمة، وسوابق قصدية غير بريئة تنضح بها تعبيراته، وتفضحه فيها انفعالاته، ويمكن إجمال هذه السوابق المضمرة والقصود المكنونة في ما يلي:
-أولها العداء التام للدين ولظاهرة الوحي وللنبوة، وللدين الإسلامي ونبيه على وجه الخصوص، فعباراته العدائية مسفرة غير متبرقعة، ظاهرة غير محجوبة، ف"الأديان هي العدو الأشرس للعالم"[5]، و"الدين هو في كل الأحوال عائق وليس محركا للمجتمعات"[6]، والأنبياء "أفزعوا البشرية بتعاليمهم وأفعالهم"[7]، والموروث الإسلامي مشكوك في صحته، وجمع القرآن "قصة خيالية"[8]... وغيرها من العبارات والفقرات التي يعج بها الكتاب، ولا يستغرب المرء إذا علم أن الرجل أحد كبار الملحدين وصناديد المنكرين للأديان والرسالات، فالبرجوع إلى كتابه "تحقيق ما للإلحاد من مقولة" الذي ألفه لدحض أطروحة المفكرين المؤمنين وأشباه المؤمنين يقول بكل وضوح "نقول... إن اليوم ودائما يمكن للمرء أن يقول إن الله غير موجود... وإن هناك حججا فلسفية متينة لكي يغدو المرء ملحدا، أو على أية حال لكي يرفض الدين"[9]. وليس من العيب في شيء أن يتبنى المرء هذا الموقف أو أن يسعى أن يستدل عليه بالحجج والبراهين، ولكن العيب هو في تلك النبرة العدائية للدين، واللهجة الساخرة من المؤمنين وعقائدهم التي تناقض العلم والمنطق وتغرق في مواقف ايديولوجية متجاوزة.
     وسبب حملته على نقاد الاستشراق مرتبط بهذه الايديولوجيا الباردة، فهو يعتقد أن هذا النقد يخرم الجهود التي بذلتها الدراسات الاستشراقية في النيل من العقائد الدينية وهدم أسسها، كما أن مواجهة هذه الدراسات بالنقد يطيل أمد العقائد الدينية ويمكّن لها.
-ثانيهما الكره العميق للإسلاميين ومن دار في فلكهم، أو تقرب منهم، أو تعاطف مع القضايا التي يناضلون من أجلها، وقد كال لهم أشنع النعوت وأبشع الصفات أجمعها لغله لهم قوله في حقهم: "الإسلاميون بجميع فصائلهم، عنوان العمالة واللاوطنية والخيانة والانتهازية والإرهاب"[10]، وهكذا جمعهم في سلة واحدة بدون تحقيق ولا تدقيق ولا تفريق. وسبب اهتمامه بهم في مؤلفه هذا اعتقاده أن أركون بمواقفه النقدية للاستشراق ومناهجه الفيلولوجية التي تهدم أصول الإسلام وعقائده يقف في صفهم ويناصر قضاياهم، لهذا لا يتورع عن وصفه هو أيضا بأنه إسلامي متخفي أو علماني متملق وغيرها، وأنه ما زال "يرزح تحت سلطة القناعات الدينية الإسلامية"[11].
-ثالثهما المعارضة المبدئية لأركون ومدرسته وتلامذته، وهو الذي خصّ مشروعه "الإسلاميات التطبيقية" بنقد تفصيلي في كتابه "العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون" والذي يشي عنوانه الفرعي بالموقف السلبي للرجل من مشروع أركون، لهذا فإنه في الكتاب الذي بين أيدينا لا يدع كلمة سيئة إلا ويصف بها هذا المشروع، فهو "مشروع تجهيلي بالأساس"[12]، كما أنه "مشروع عبثي تخريبي بأتم معنى الكلمة"[13]، أما عن انفتاحه المنهجي فهو مجرد "طرح أسئلة وعدم تقديم أجوبة، يعني... منهج اللامنهج، عبث فكري لا غير..."[14]. والشيء نفسه، والنعوت ذاتها يكيلها لمن يصفهم بأتباع أركون وتلامذته أمثال هشام صالح ومحمد حداد وآمنة الجبلاوي.
-رابعها التبجيل للإرث الاستشراقي والمنهج الفيلولوجي بزعم قدرة هذه الدراسات وهذه المناهج على هدم العقائد الإيمانية و"اعتماد نظرة عقلانية متحررة للقرآن والوحي والنبوة"[15]، فرغم أنه يدعي أن الدراسات الاستشراقية ليست محصنة ضد التشكيك والدحض[16]، فإنه يقف بالمرصاد لكل المحاولات الجادة التي تعمل على تفكيك الإنشاء الاستشراقي عن طريق توظيف العلوم الإنسانية والمناهج النقدية الحديثة.
      لكن في المقابل لا يجد أي حرج في التعرض بالنقد لبعض المستشرقين وانتاجاتهم المعرفية، من الذين أزعجته بعض أرائهم المتملقة للدين الإسلامي في نظره، مثل أراء برنارد لويس الذي يعتبره عرّاب المؤامرة التخريبية الكبرى "أعني تحالف الإسلاميين والغرب لتدمير العالم العربي وتفتيته بالكامل"[17]، وهو بهذا سقط في تناقض مريع وازدواجية مرفوضة حيث يدافع عن الاستشراق ضد منتقديه وفي نفس الوقت يمرغ في التراب بعض المشاريع الاستشراقية، وهذا التناقض والازدواجية هو ما عابه بالضبط على أركون الذي وصفه بأنه "يهجم على المستشرقين هجمة شرسة، ثم يعود أدراجه فيتصالح معهم ويثني عليهم"[18]، أما صاحبنا فإنه يدافع عنهم ضد خصومهم دفاعا مستميتا ثم يعود إلى الهجوم على الذين لا تروقه أفكارهم فيصفهم بأقذع النعوت والأوصاف. وكأنه لم يدرك أن الاستشراق فيه الغث والسمين، والحسن والقبيح لهذا فكل من التبجيل المطلق أو التبخيس المطلق هو موقف مبني على غير أساس.
     أما الموقف المتبصر من الدراسات الاستشراقية فهو الذي يقوم على أساس دراسة وتحليل الأفكار في أصولها المعرفية وفحص المناهج التي توسلت بها هذه الدراسات، بعيدا عن المواقف الايديولوجية اليابسة. 




[1] -د.محمد المزوغي، في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح. افريقيا الشرق 2017. ص28.
[2] - نفسه ص198.
[3] -نفسه ص6.
[4] -نفسه ص118.
[5] -نفسه ص33.
[6] -نفسه ص39.
[7] -نفسه ص184.
[8] -نفسه ص43.
[9] -د.محمد المزوغي، تحقيق ما للإلحاد من مقولة. منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2014. ص6.
[10] - د.محمد المزوغي، في نقد الاستشراق ص63.
[11] -نفسه ص39.
[12] -نفسه ص72.
[13] -نفسه ص74.
[14] -نفسه ص123.
[15] -نفسه ص25.
[16] -نفسه ص33.
[17] -نفسه ص54.
[18] -نفسه ص113.