الاثنين، 29 ديسمبر 2014

د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي.

د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي.
الكتاب عبارة عن مجموعة من الأبحاث المتفرقة )خمسة فصول(  كتبها الرجل في مراحل زمنية مختلفة، لكنها تتعلق كلها بموضوع المقاصد لهذا ارتأى نشرها في كتاب واحد، بعضها حسن جيد وبعضها لم يكن الكاتب موفقا فيه غاية التوفيق، بل درج على النهج التقليدي في تناول موضوعات المقاصد ومباحثها مع بعض الإلماعات القليلة هنا أو هناك أو بعض التطبيقات المتوقعة المعهودة ويتعلق الأمر خصوصا بالفصل الأخير الذي خصصه لتنزيل مقاصد العقيدة على اسمَي الله المعطي والمانع من خلال حكم ابن عطاء الله السكندري، وكذلك الفصل الثالث الذي حقق فيه مسألة القول بجواز بقاء زواج المرأة التي أسلمت دون زوجها لتماشيه مع مقاصد الشريعة في الموضوع، فإنها مجرد تطبيقات جزئية مسبوقة باجتهادات أكثر جرأة سواء في عصرنا الحاضر أو تاريخنا الفقهي والتشريعي، لهذا لن أتعرض في هذه العجالة لهتين القضيتين.
      أما المباحث التي وُفق فيها الكاتب في استلهام روح جديدة للمقاصد بحيث تكون به فعلا مسايرة لواقع الناس ومفضية إلى استحداث الجديد في ظل الواقع المتشابك الذي يشهده العالم اليوم نجد الفصل الأول –أعتبره أفضل فصول مباحث الكتاب- الذي جَهد من خلاله الكاتب في "تحليل أثر رؤية العالم في ذهن المجتهدين المقاصديين في استقرائهم للمقاصد ونحتهم لمصطلحاتها"[1]، ومفهوم "رؤية العالم" عنده عبارة عن "منظومة ذهنية وإحساس بالواقع يشكلان نظرة الإنسان إلى ما حوله في الحياة وأسلوب تفاعله معه"[2]، وهو مفهوم حديث النشأة نسبيا، نشأ في الفلسفة الألمانية منذ قرن من الزمن.
      وقد أبان الكاتب من خلال تنزيل هذا المفهوم على قضايا المقاصد من خلال استقراء اجتهادات المقاصديين المختلفة عبر التاريخ الطويل لهذا العلم عن الأثر الواضح للواقع المعيش والتطورات الحادثة في كيفية صياغة العلماء لمقاصد الشريعة وتعبيرهم عنها، ومن أمثلة ذلك طريقة تعبيرهم عن ضرورة حفظ الضرورات الخمس المعروفة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
      فبخصوص كلية الدين انتقل الأمر من مجرد المطالبة بحفظ الدين إلى ضرورة كفالة الحريات الدينية "فقد تحول حفظ الدين من مبدأ يقوم عليه "حد الردة" إلى مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية بالمعنى المعاصر"[3] ومن نتائجه المرجوة تعميم القبول بمبدأ الحرية الدينية وتناسي حد الردة، وانتقل التعبير عن كلية النفس من حفظ النفس إلى حفظ حقوق الإنسان بالمعنى المعاصر المتضمن للكرامة الإنسانية ولعل هذا يُشرع أمامنا الأبواب للقدرة على القول بكونية حقوق الإنسان، أما كلية العقل فانتقل التعبير عنها من حفظ العقل إلى تنمية الملكات العقلية والفكرية، فلم يعد الأمر مجرد صياغة حفظية بل صياغة تنموية للعقل البشري، وانتقل التعبير عن كلية النسل من حفظ النسل والعرض إلى بناء الأسرة وكلية المال من مجرد حفظ المال إلى ضرورة التنمية الاقتصادية بأبعادها المختلفة.
      أما المباحث التي لم يوفق فيها الكاتب في نظري فهي محاولته تقويم معايير البنك الدولي في تقييم قوة الاقتصاد المعرفي على ضوء المقاصد الشرعية والتي خصص لها الفصل الرابع، ومعايير البنك الدولي تتوزع على ثلاثة معايير رئيسة تنضوي تحتها عدة مقاييس جزئية، والمعايير الثلاث الكبرى هي: معدل الابتكار ومعدل التدريب والتعليم ومعدل تشجيع المؤسسات والشركات.
      ومعلوم أن هذه المعايير تضع الدول العربية والإسلامية في ذيل الترتيب العالمي نظرا للتخلف الشديد الذي تشهده هذه الدول مجتمعة بخصوص المعايير المذكورة الشيء الذي يعكس الإهمال الشديد الذي يعاني منه الاقتصاد المعرفي خاصة ومعدلات التنمية البشرية عامة في العالمين العربي والإسلامي.
      وإذ لم يرغب الكاتب في الخوض في أسباب هذا التخلف الهيكلي الذي تعاني منه الأمة فإنه في المقابل عوَّل على تقويم هذه المعايير وتصويبها بما ينسجم مع الرؤية الإسلامية المتضمنة في المقاصد الشرعية الكبرى، مما قد يكون له بعض الأثر في زحزحة تنصيف هذه الدول.
لكنني أعتقد أن الكاتب قد أخفق إلى حد ما في هذا التصويب وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن اقتراح معايير جديدة للتصنيف تندرج ضمن المبادئ والأخلاق أكثر من اندراجها في مجال البحث والابتكار من قبيل الاستناد إلى الكيف قبل الكم باعتبار أن "الكيف أولى من الكم في ميزان الإسلام"[4] يعفي الأمة من الحاجة إلى الكم أيضا والتي هي مفتقرة إليه أشد الافتقار، ثم إن التشجيع على إنتاج الكم والوفرة يشمل ضمنا مسألة الكيف، أما التركيز على الكيف وحده فإنه يضيع مسألة الكم ويسقطنا في انتظارية مقيتة لمسألة الكيف التي قد تأتي أو لا تأتي.
ثانيا: انتقاد إدراج مدى قدرة المواطنين على الولوج إلى المعلومة وتحقيق التواصل السريع من خلال معدلات البنية التحتية التواصلية والإعلامية )عدد التليفونات لكل ألف نسمة- عدد أجهزة الحاسوب لكل ألف نسمة- عدد مستخدمي الإنترنيت لكل ألف نسمة( من خلال التركيز بدلا من ذلك على "كيفية استغلال هذه الشبكة وأنواع التطبيقات والصفحات المنشأة والمستدعاة من خلال الشبكة"[5]، يضفي الشرعية على واقع التفاوت الاجتماعي وسوء توزيع الثروات الذي ترزح تحت ويلاته الأمة بفعل الاستبداد والفساد، والصواب هو الإبقاء على معايير البنك العالمي وتعزيزها لأنها تكشف واقع الحال المهترئ في هذه الدول التي يستبد بخيراتها طغمة قليلة من الناس، بينما السواد الأعظم من المواطنين محروم من حقه في النفوذ إلى المعلومة والاتصال.
      بعد هذا العرض يتبقى لنا الفصل الثاني الذي اقترح فيه صاحبنا نوط الأحكام الشرعية بمقاصدها تدور معها وجودا وعدما إلى جانب العلة التي درج الفقهاء على نوط الأحكام الشرعية بها وعبَّر عن ذلك من خلال صوغ القاعدة التالية )تدور الأحكام الشرعية العملية مع مقاصدها وجودا وعدما كما تدور مع عللها وجودا وعدما([6]، لكن تحُول دون هذا الاقتراح صعوبات أهمها عدم وضوح التمييز الذي وضعه الكاتب بين مقصد الحكم والحكمة المرجوة منه، يقول: "الحكمة مصلحة تترتب على الحكم، أما المقصد فهو مصلحة أو مجموعة مصالح ينص الشارع أو يغلب على ظن المجتهد أنها المقصودة من الحكم، أي لولاها لما شُرع الحكم أصلا"[7]، فأنت ترى أنه عبر عن الأمرين بالمصلحة الشيء الذي يزيد الأمر التباسا لا وضوحا، كما أن الكثير من التطبيقات التي ساقها في الباب لا تخرج عن هذا الالتباس، ومن ذلك مسألة عطاء المؤلفة قلوبهم واجتهاد عمر في ايقاف هذا المصرف من الزكاة فمبناه على إعزاز الإسلام حسب ما صرح به ابن الهمام[8]، لكن قضية الإعزاز هذه هل هي علة الحكم كما قال ابن الهمام أم مقصد له حسب ما ذهب إليه الكاتب أم مجرد حكمة؟ فلا شك أن الإعزاز مصلحة ظاهرة لكن حملها على المقصد دون الحكمة مسألة فيها نظر.
      كما أنه يتعسف في تأويل معنى الحكمة على معنى المقصد ومن ذلك ما ذهب إليه ابن قدامة في معرض استبعاده اعتبار المرض علة للترخيص في لإفطار لأن المرض علة غير منضبطة فوجب العدول إلى الحكمة وهي خوف الضرر يقول: "وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره"[9]، لكن صاحبنا اعتبر أم مقصود الرجل بالحكمة هو المقصد، وهذا غير مسلَّم له.
      وهكذا نصل إلى التصريح بالنتيجة المرجوة من هذا النقاش وهو أن نوط الأحكام بمقصدها هو نفسه نوطها بحكمها إذ لا فرق، ومسألة اعتبار الحكمة في القياس سبق أن دعا إليها العديد من العلماء والمجتهدين منهم ابن قدامة في قوله السابق، ولعل غلط جمهور الفقهاء هو إصرارهم على اعتبار العلة دون الحكمة في القياس والاجتهاد وهو تضييق لواسع، وعليه فإن صاحبنا لم يأت بجديد في الموضوع. والسلام
      الاثنين 29 دجنبر 2014.



[1] -د.جاسر عودة، الاجتهاد المقاصدي: من التطور الأصولي إلى التنزيل العملي. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2013.
[2] -المرجع نفسه ص16.
[3] -المرجع نفسه ص30.
[4] -المرجع نفسه ص119.
[5] -المرجع نفسه ص121.
[6]-المرجع نفسه ص73.
[7] -المرجع نفسه ص79.
[8] -المرجع نفسه ص51.
[9] -المرجع نفسه ص80.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق