الجمعة، 17 أكتوبر 2014

رحيل المرافئ القديمة انطباعات أولية.

رحيل المرافئ القديمة انطباعات أولية.

     يجسد هذا العمل المتميز آثار اللهيب والحرائق والدمار التي خلفتها النكسة على النفوس والضمائر، إنها الحيرة المعلقة على جدران الصمت الخرساء التي تقوى على التعبير أفضل مما تفعله الألسن الغائرة في الحناجر بألف لغة ولسان.
     يُمثل الهرب الدائم والفرار المستمر في دروب الخرائط الممزقة وعبر الخرائب القديمة والمقابر المنسية التي حالت إلى جذوة الحياة ونسغها بعيدا عن عذابات وجراح الصور الباهتة والهياكل المحنطة في واقع الناس.
     إنه قلق الحقيقة وسوطها المسلط مثل سيف دموقليس الذي يلاحق جلد الأحياء فيبدلونه بآخر كالحيات، إنه شؤم التاريخ ونُذر الجغرافيا المتجسد في وباء الكذب والنفاق اللذين أعقبا النكسة.
     لعلها بكائيات أطلال الموت المنبعثة من رماد الأحلام والأمنيات، ومرثيات الحزن المنغرس في قلوب مدمية برائحة المنون ولون الأكفان.
     تلك هي انطباعاتي عند قراءة هذا العمل الفريد للموهوبة غادة السمان، بحيث تجد نفسك تعيش مرارات الهزيمة مثلما عاشها جيل بأكمله الذي وقف على حافة الاحتراق البطيء المسكون بدفق الجنون والحيرة والذهول.  
18/10/2014

السبت، 20 سبتمبر 2014

إضاءات حول كتاب "أشواق الحرية" لصاحبه نواف القديمي.

إضاءات حول كتاب "أشواق الحرية" لصاحبه نواف القديمي.


أسال موقف التيار الإسلامي من الديمقراطية الكثير من المداد: فقد كُتبت حوله العديد من الدراسات والمؤلفات، وعُقدت الكثير من الندوات والمؤتمرات،  وذلك باعتبار التوجسات والشكوك التي يطرحها أطراف مختلفة حول موقف الإسلاميين عموما من الديمقراطية، وذلك رغم إعلان الغالبية العظمى منهم نيتهم العمل تحت المظلة الديمقراطية بل والمشاركة الفعلية للكثير من أعلامهم وتياراتهم في اللعبة الديمقراطية نفسها ودخولهم المشهد السياسي وخوضهم المعترك الانتخابي في أكثر من بلد عربي وإسلامي خصوصا بعد موجات الربيع العربي.
لكن تحفظ قطاع واسع من السلفيين المحسوبين –بالضرورة- على التيار الإسلامي على العملية الديمقراطية برمتها خصوصا في بعض دول الخليج كان الباعث الحثيث الذي أوقد شعلة الكاتب ودفعه دفعا لتدبيج كتابه هذا قصد إبراز وجوه القصور في الطرح السلفي المتحفظ على العملية الديمقراطية ومحاولة إقناع وجوهه البارزة وجماهيره العريضة بأهمية الديمقراطية في تنظيم الدولة العربية الراهنة التي تشكو عوزا مفرطا في التحرر والعدالة.
بداية يقصد صاحبنا بالتيار السلفي الذي يوجه إليه خطابه، بأنه تلك "المدرسة الفكرية التي تمثِّل الامتداد الطبيعي لمدرسة أهل الحديث من حيث المحدد العقدي التفصيلي، ومن حيث التمحور حول النقاء في التعامل مع المختلفين داخل الصف الإسلامي. ثم من حيث الاعتماد على مرجعية السلف في التعاطي مع كل القضايا الفقهية، حتى تلك المستجدة والحادثة.."[1].
والتيار السلفي بهذا المعنى حسب الكاتب يضم جناحين: جناح تقليدي غير منظم حركيا، سواء كان قريبا من السلطة أو بعيدا عنها، وجناح حركي يضم الحركات السلفية المنظمة[2]. ولا يخرج موقف الجناحين من الديمقراطية عن إطارين:
-رفض المشاركة في العملية الديمقراطية، إيمانا بعدم مشروعيتها، وبأنها تتنافى مع أصول الإسلام.
-المشاركة في العملية الديمقراطية تحت لافتة )المصلحة( و)الضرورة( مع الاعتراض على أسس النظام الديمقراطي واعتبارها مناقضة لأصول الإسلام[3].
ومما يلاحظه الكاتب على هذا التيار هو حجم الغياب المرعب لقضايا العدل والحقوق عن خطابه[4]، مع العلم أن هذه القضايا حظيت بحضور كبير ونالت رتبة الأولويات في الخطاب الشرعي الأصلي المبثوث في نصوص الوحيين: القرآن والسنة[5]، في حين انصرف الخطاب السلفي إما إلى مباحث كلية أخرى مثل قضايا العقائد والهوية والأخلاق[6]، أو انصب على قضايا فرعية ومسائل ثانوية منها ما يهم المجتمع السعودي على وجه الخصوص مثل النقاشات وردود الأفعال الذي رافقت صدور رواية "بنات الرياض"[7].
لهذا كله فإن القضية الأساس التي يناضل من أجلها الكتاب هي محاولة إقناع جمهور السلفيين المعارضين للديمقراطية أو المتحفظين عليها بأهميتها في إدارة المجتمعات العربية الراهنة، وأنها يمكن أن تشكل الرافعة الأساس لتجاوز مستنقعات الحكم الفردي ولتخطي قيود الاستبداد التي كبلت الأمة وعطلت طاقاتها منذ الانقلاب الأموي الأول على السلطة الشرعية إلى يوم الناس هذا.
ولعل أهم تحفظات التيار السلفي على العملية الديمقراطية تعود إلى أوهام وإشكالات غير صحيحة، سرعان ما تتبدد متى عُدلت المفاهيم وقوِّمت الاعوجاجات، ومن ذلك في نظر الكاتب ما يلي:
أولا: الخلط المريع بين مفهومي السلطة والمرجعية، ذلك أن المقولة الجاهزة التي يعترض بها رافضو الديمقراطية من الباب الشرعي هي "في الديمقراطية الحكم للشعب، وفي الإسلام الحكم للشريعة"، وإذ يعتبر الكاتب هذه المقارنة مُضللة، فإن منشأ الخلل فيها يعود إلى الخلط بين مفهومين يمكن التمييز بينهما تمام التمييز دون عناء. فإذا كانت السلطة هي "أداة التنفيذ العملي في الدولة" فإن المرجعية هي "مجموع الأفكار والمبادئ والأحكام التي تحتكم إليها السلطة في التشريع"[8]، وعليه فإن المرجعية ستظل دائما هي الشريعة في المجتمع الإسلامي، مع ملاحظة أن "سلطة" تطبيق الشريعة كانت تُسند في التاريخ الإسلامي إلى حاكم فرد متغلب، أما في النظام الديمقراطي فتسند "سلطة" تطبيق الشريعة إلى الأمة، وحتى في حال انحراف الأمة واختيارها عدم تطبيق الشريعة فهذا لا يعني أن الشعب بات هو المرجعية، بل تبقى الشريعة هي المرجعية الدائمة للمسلم[9].
ثانيا: الربط الآلي الذي يقوم به مناهضو الديمقراطية بين هذه الأخيرة وبين العلمانية، يقول الكاتب "أن العنصر الرئيس الذي يتكئ عليه كثير من ناقدي النظام الديمقراطي هو الربط الصارم بين الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما متلازمين ولا يمكن الفصل بينهما. ويكون هذا الربط بين المفهومين هو القاعدة الصلبة للتحريم ونفي المشروعية"[10]. لهذا فقد سعى جاهدا إلى تقديم فهم خاص للديمقراطية يقوم على اعتبارها آليات تحسم الخلاف وتنظم المجتمعات لا يجوز الربط الصارم لها بأية فلسفة البتة، الشيء الذي يعني أن كل مجتمع يمكنه أن يمتلك تلك الآليات وفقا لثقافته وفلسفته الخاصة، لهذا فإنه لا يتوانى عن الاستشهاد بالفيلسوف الأمريكي جون رولز الذي "أكد حيادية العملية الديمقراطية وعدم ارتباطها بالمفهوم العلماني"[11].
لكن هذا المسلك طوَّح بالكاتب بعيدا عن المفهوم الشامل للديمقراطية وذلك من خلال تغليب غير محمود لآلية الانتخاب وقصرها عليه في الغالب، إذا مما لا غبار عليه أن روح الديمقراطية تتجاوز العملية الانتخابية التي تعد بمثابة القشرة لها إلى لب الأمر الذي من مقتضياته صون الحقوق الأساسية للإنسان وحفظ حقوق الأقليات. ولعل هواجس المجتمع السعودي المحافظ وشيطنة التيار السلفي –المقصود بالخطاب في هذا الكتاب- للعملية الديمقراطية رزحت بثقلها على المؤلِف ودفعته كرها إلى هذا الطرح.
لكن النتائج التي آل إليها هذا الفهم الضيق للنظام الديمقراطي أظهرت عور هذا الطرح وخطله، ويمكننا أن نمثل لذلك في تلكؤ الكاتب الواضح في الإقرار بجملة من الحقوق الطبيعية التي يكفلها النظام الديمقراطي للشعوب عامة وللمعارضة على وجه الخصوص، ومن ذلك:
-حظر تأسيس أحزاب على أساس علماني، بحيث يمكن للأمة عبر دستورها أن تقر ذلك، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يصادر أحد قرار الأمة حتى ولو كان ذلك بطلب من الأغلبية البرلمانية[12]. وهذا رديف الدعوة العلمانية إلى مصادرة حق الإسلاميين في المشاركة السياسية بدعوى منع قيام وتأسيس أحزاب على أساس ديني، وهو أمر ينم عن جهل أصيل بقواعد اللعبة الديمقراطية التي تقوم على صون الحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في التجمع الحزبي والمشاركة في المشهد السياسي.
-مصادرة الحق في التعبير متى خالف الشريعة الإسلامية ومن مظاهر هذه المخالفة المطالبة بتنحية الشريعة عن الحكم التي يمكن مصادرتها عن طريق سنِّ الأنظمة والقوانين التي تمنع ذلك بدعوى أنه لا توجد حرية مطلقة حتى في أعتى الأنظمة الديمقراطية وأقدمها وجودا[13]. ولا يخفى عليك أيضا أن هذا مخالف للقواعد الديمقراطية المتعارف عليها مادام أن الأمر يتعلق بانتهاك حقوق المعارضة أو مصادرة الحريات العامة.
لكننا نجده في الوقت نفسه –وبدافع إقناع السلفيين بجدوى العملية الديمقراطية- يُزين لمخاطبيه النظام الديمقراطي عن طريق إبراز الهوامش العظيمة التي يتيحها هذا النظام للمعارضة الإسلامية في حال فشلها في الوصول إلى الحكم والتي يمكنها  "تأسيس أحزاب وجمعيات ومدارس ووسائل إعلام.. من أجل دعوة الناس إلى تطبيق الشريعة، وتغيير الدستور .. كي يكون ملتزما بالشريعة"[14] هكذا بجرة قلم، بينما المخالف لا يمكنه أن يتمتع بهذه المزايا والحقوق مادام يُشكل الأقلية، بحيث يمكننا أن نلمس الطرح البرجماتي الواضح في هذا الفهم الخاص للنظام الديمقراطي.
لكن مع هذا كله فإن الكاتب قد حاول الاجتهاد قدر الإمكان في بلورة جملة من الفهوم الجديدة للعديد من المصطلحات التي كرسها الفقه الإسلامي السلطاني بغية الحد من حرية الأمة في بناء نظام سياسي يقوم على حقها الأصيل في اختيار حكامها وتقويم أعمالهم وعزلهم، ومن بين هذه المصطلحات أخص بالذكر اثنين هما:
-مفهوم الغلبة الذي ارتبط في الكتابات والآداب السلطانية بضرورة طاعة المتغلب بالقوة وحِرمة الخروج عليه درء للفتنة وحقنا للدماء، هذا المصطلح ينبغي –حسب الكاتب- انتزاعه من هذا المعني السلبي وربطه بالأحرى باختيار الناس وتصويت المواطنين[15]، وهي فكرة استمدها من كتابات الشيخ محمد الحسن بن الددو.
-مفهوم "ولي الأمر" الذي ارتبط في الفكر الإسلامي بالحاكم الفرد القوي والعادل، لكن هذا المدلول التقليدي ينبغي تجاوزه أيضا عن طريق ربط المصطلح وإحالة معناه على مؤسسات الدولة وسلطاتها الشرعية المتعددة، يقول صاحبنا "صلاحيات وسلطات )ولي الأمر( صارت اليوم في النظام السياسي الحديث موزعة على سلطات ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، لا تهيمن فيها سلطة على أخرى.."[16].
إن هتين الفكرتين كفيلتين بأن تفتحا الباب واسعا أمام إعادة النظر في المفاهيم والمصطلحات التي نحتها الفقه السلطاني، وكذا مساءلة مدلولاتها وتفكيك معانيها في أفق تجاوزها وإعادة صياغة الفقه السياسي الإسلامي أو ما يعرف بالسياسة الشرعية برمته على ضوء المستجدات السياسية والعلمية التي شهدها الفقه الدستوري المعاصر.   
الثلاثاء 16 شتنبر 2014.





[1] -نواف القديمي، أشواق الحرية: مقاربة للموقف السلفي من الديمقراطية. تقديم: أحمد الريسوني ومحمد الحسن بن الددو. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة السادسة 2013. ص25.
[2] -المرجع نفسه ص26. نلمس هذا الطرح مثلا في سعي الأستاذ حماد القباج في التأصيل للمشاركة في العملية السياسية والتصويت في الانتخابات ودخول البرلمانات وفقا لقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد في كتابه "الاستبصار والتؤدة في عرض المستجدات والنوازل على قواعد المصلحة والمفسدة".
[3] -المرجع نفسه ص26.
[4] -المرجع نفسه ص110.
[5] -المرجع نفسه ص110.
[6] -المرجع نفسه ص111.
[7] -المرجع نفسه ص110.
[8] - المرجع نفسه ص53.
[9] - المرجع نفسه ص52 و53.
[10] - المرجع نفسه ص115.
[11] - المرجع نفسه ص30.
[12] - المرجع نفسه ص50 وانظر أيضا ص87.
[13] - المرجع نفسه ص87.
[14] - المرجع نفسه 58-59.
[15] - المرجع نفسه ص74.
[16] - المرجع نفسه ص104.

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

هشام العلوي الجسد بين الشرق والغرب:نماذج وتصورات.

هشام العلوي
الجسد بين الشرق والغرب:نماذج وتصورات.
منشورات الزمن.
      رغم صغر حجم الكتاب فإن مؤلفه قد جهد في تتبع ما نسجته الأديان التوحيدية ونحتته النظريات والفلسفات الكبرى حول "تيمة" الجسد شرقا وغربا، وهو وإن كان في ذلك لم يستوعب بل آثر أن يقدم نماذج وتصورات تمثيلية فحسب، فإنه قدم مادة دسمة حول الموضوع شدت انتباهي وأغنت فكري، لكن تبقى في النفس ملاحظات لا يقلل من أهمية العمل في شيء إبداؤها:
1-غفل الكاتب عن تفكيك خطابات الجسد وتشريح مقولاته، واكتفى بعرض أفكار المذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية حول الموضوع خلوا من كل نقد أو تشريح، الشيء الذي أضفى على عمله طابع السرد والتوثيق، ونبا به عن صراط الأعمال التأسيسية العظيمة التي تخوض لجة المشاغبة على الأفكار السائدة وإعمال مبضع التحليل في أساساتها.
2-شساعة الحقول المعرفية التي انتقى الكاتب منها خطاباته التمثيلية حول الجسد جعل كتابه يبدو أشبه بدراسة عامة فضفاضة منه ببحث "مونوغرافي" ينفذ إلى دقائق الموضوع وتفاصيله.
3-عُني الرجل باستعراض الخطاب الديني والفلسفي حول الموضوع وذهل عن خطابات الجسد الأدبية: النثرية والشعرية، والتي تزخر بالتمثلات المختلفة للموضوع والتوظيفات الرمزية والدلالية المتعددة له، وذلك رغم إدراكه لأهمية الموضوع من خلال إشارته المقتضبة في أحد ملحقيه لتحليل جان بيير ريشار  للأنماط المهيمنة التي يتوزعها الجسد الروائي في أعمال بالزاك.

الثلاثاء 02شتنبر 2014.

الجمعة، 18 يوليو 2014


مشروع الإبداع الفلسفي العربي by يوسف بن عدي
لم يكن الكاتب موفقا في عرضه لأفكار د.طه عبد الرحمان في كتابه هذا، وذلك بسبب التشويش الكثيف والغموض الملحوظ اللذين اكتنفا تحليل الكاتب لأفكار د.طه ومشروعه الفلسفي، باستثناء الفصل الأخير الذي خصصه للأطروحات المعارضة للفلسفة الطهائية والذي كان أكثر وضوحا وتنسيقا.
ولعله من بين أهم العلل التي شابت عمل د.يوسف بن عدي يمكن إجمالها فيما يلي:
1-غياب التناسق والانسجام بين فقرات الكتاب بحيث نجد الرجل ينتقل من فكرة إلى أخرى دون رابط أو إشعار مسبق بحيث يجد القارئ نفسه يتعرض لنوع من الهزات العنيفة كأنه يسوق سيارة في دروب أرض غير معبدة البتة. وقد كان خليقا به أن ينظم أفكاره ويرقم فقراته ويعنونها إن أمكن بحيث ينتقل القارئ من فكرة إلى أخرى بسلاسة ويسر.
2-الاخلال بمعنى الكثير من المفاهيم الفلسفيةالتي أثلها طه عبد الرحمان، وذلك أنه يعرض الكثير من هذه المفاهيم والمصطلحات بطريقة مكثفة ومختصرة وأحيانا مبتورة عن سياقها التوضيحي الذي وضعه لها د.طه، الشيئ الذي يؤدي إلى الكثير من الغموض والحيرة ، ورغم إكثاره من الهوامش لتدارك الأمر فإنه لم يفلح في إزالة اللبس والاستشكال، الشيئ الذي يضطرك أحيانا للرجوع إلى الأصل لمعرفة قصد الرجل بينما الكتاب مرصود في الأصل لغاية البيان والتوضيح وليس للأحاجي والألغاز.
3-إقحام العديد من الفقرات والأفكار في غير موطنها الأمر الذي أدى به إلى الوقوع في آفتين هما: الاطناب الممل وإرباك القارئ، وقد كان في غنى عن ذلك بالاكتفاء بمعالجة ما له علاقة بعنوان الفصل أو الفقرة.
هذا غيض من فيض ما وقع فيه الرجل من أغاليط، لهذا أعتقد أنه في أحايين كثيرة فإن عناوين الكتب لا تعكس محتواها

الجمعة، 16 مايو 2014

Big brother is watching you

أو قراءة جديدة لرواية جورج أورويل "1984".

تعتبر رواية الكاتب الإنجليزي الكبير جورج أورويل "1984" من الروائع العالمية الخالدة التي تستحق القراءة المرة تلو المرة، وذلك لما تختزنه من الأبعاد الإنسانية وتطفح به من الإشارات والتوقعات لمستقبلها، فهي رواية نبوئية بامتياز، تستشرف المستقبل بلغة يقظة مُحذرة، ونظرة ثاقبة فاحصة. فعلى الرغم من أن الرجل قد ألف روايته سنة 1949م على إثر المد المُستعر الذي عرفته الأنظمة الشمولية آنذاك عقب الحرب العالمية الثانية التي خرج منها الإتحاد السوفيتي منتشيا بالنصر وليشكل أنموذجا مغريا للحزب الواحد والديمقراطية المركزية الصارمة، قلت رغم قلق الظروف التاريخية وهاجس الساقيات السياسية والثقافية المرعبة لتلك المرحلة، فإن نظرة الرجل في روايته لم تخب، بل تحقق الكثير من نبوءاته وإن بصيغ مختلفة وطرق متنوعة.
      إن الصورة التي رسمها الكاتب لمجتمع مغلق يحكمه بالحديد والنار نظام شمولي ديكتاتوري، ويعبث بمقدراته الحزب الواحد المنزه عن الخطأ، يحصي على الناس أنفاسهم ويُشيع بينهم ثقافة التجسس وشهوة التلصص، بحيث تصبح عبارة "Big brother is watching you" مُلخِّصة بشدة ودقة متناهيتين للمشهد برمته ورمزا للاحتكار الشديد للسلطة المبنية على القهر والتسلط والمراقبة. هذه الصورة القاتمة قد تبدو اليوم متجاوزة بعد الانهيارات المتتالية للأنظمة الشمولية وبفعل التأثيرات الهائلة التي أحدثتها في الثقافة السياسية الموجات المتتالية للديمقراطية، لكنني اعتقد أن الأمر على خلاف ذلك، فلا زالت تلك الصورة بظلالها القاتمة وأبعادها الموبوءة تجثم على صدور الناس وتخنق أنفاسهم. فالإنسانية اليوم أصبحت عارية مكشوفة أمام أجهزة الرصد العملاقة السابحة في الفضاء أو السيارة عبر وسائل الاتصال المتطورة المقتحمة لكل بيت، المبثوثة في كل زاوية أو ركن، تجسُّ نبضات الناس وتتسلل إلى حياتهم علانية وخُفية، بالضبط مثلما هو الحال في "أوقيانيا" في رواية "1984"، حيث يُخيِّم الرعب على المواطنين الذين لا يستطيعون الانفكاك قد أنملة عن أجهزة الرصد المزروعة في بيوتهم، والمَخفِيَّة في أفنيتهم وشوارعهم، والمدسوسة في مدنهم وأريافهم.
      إن انتهاك حرية الإنسان والمسَّ بسلامة خصوصياته الشخصية بهذه الصورة غير المسبوقة يقدح في جمال الصورة التي يُسوِّقها الإنسان المعاصر للمستوى الرفيع الذي آل إليه وضع حقوق الإنسان ويطعن في كمال المواثيق والبرتوكولات المزيفة التي يتغنون بها اليوم. فمما لا شك فيه أننا أمام ارتدادات مفضوحة إلى عصور التسلط وانتكاسات شديدة للتطلعات "الأنوارية" التي انبثقت في الفكر الإنساني، وكل ذلك يتم بذرائع باطلة وتحت شعارات خرقاء من قبيل الحفاظ على الأمن القومي أو محاربة الإرهاب أو ارتياد الآفاق العلمية المفتوحة دون حدود[1].    
      لكنني استدرك وأقول، تجنبا لكل سوء فهم ممكن، بأن ضرورة المحافظة على الخصوصية الإنسانية والدفاع عن قيم الحرية والخير والعدل لا يعني بحال رفض الإمكانات الهائلة التي يتيحها التطور العلمي أو الوقوف ضد الاستغلال المتزن لهذه الإبداعات في مجال التواصل والإعلام، ولكنني أقصد بالدرجة الأولى الدعوة إلى تخليق التوظيف المتوحش والتوجيه الباطش لهذه الوسائل اللذين يدمران القيم والأعراف والخصوصيات، بل إن "الدول المارقة" أصبحت تستغل هذه التطورات السريعة والثورات المتكررة لوسائل الاتصال الحديث للعبث بمستقبل الإنسانية.  
      ثم إن انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي قد أضر بصيغ التعددية والتوازن اللذين ينبغي أن يكون عليهما العالم، وخَلق لديها نزوعا متعاظما نحو التسلط والقهر، سواء من خلال الحروب الاستباقية التي أصبحت تخوضها بدعوى مواجهة الإرهاب أو بواسطة الهيمنة على المؤسسات العالمية: السياسية والمالية أو عبر الاحتكار المفرط للثروات الاقتصادية أو عن طريق نشر  وتكريس قيم ثقافية بعينها، وهذا الأمر شبيه إلى حد ما بالعمل المشبوه للحزب الواحد في الأنظمة الشمولية والذي تدينه روايتنا بشدة. 
      لعل نبوءات صاحبنا على هذا المستوى قد تكون أقل صدقا إذا ما عملنا على قراءة تلك التكهنات في ظل الوضع العربي المتردي اليوم على كل الصُعد، إن الصورة القاتمة المأسوية التي قدمها الرجل عن المجتمع الأوقياني لا تقل سوءً عما يعانيه المواطن العربي اليوم تحت أنظمة البطش والنَّيْر خصوصا بعد النكسات التي مُني بها "الربيع العربي" وتصاعد موجات الثورات المضادة التي أخذت تحصد الأخضر واليابس بعد الانكفاء التكتيكي الذي اعتمدته أنظمة البؤس وأذرعها الأخطبوطية الممتدة بشكل سرطاني في جسم الدولة والمجتمع إبان المد الثوري الحقيقي، ومن أبرز تلك التوقعات المريعة التي ألمعَت إليها الرواية والتي قد تصدق بصفة شبه تامة على الوضع العربي أُشير إلى ما يلي:
أولا: استيلاء مجموعة من العصابات الأوليغارشية وبطرق مختلفة على مقاليد الحكم والاقتصاد في الوطن العربي، حتى غدا من بين الأحكام النمطية المنتشرة في الأدبيات السياسية العالمية كون العالم العربي أصبح عصيَّا على اختراق الحكم الرشيد لمنظومته السياسية، فرغم الموجات الديمقراطية المتعددة التي اقتحمت أسوار أعتى الأنظمة الشمولية في أسيا وأمريكا اللاتينية، ورغم المد الثوري الذي شهده "الربيع العربي" فإن انكفاء غادرا أطفأ كل شموع الأمل التي أحياها هذا المد.
       وأغلب هذه الأنظمة الاستبدادية يقوم على إضفاء القداسة على تدبيرها البشري لشؤون الناس، وتسعى إلى تكريس هيمنة الفرد الواحد القائد الفعلي والتاريخي للدولة والمجتمع، الذي لا يُسأل عما يفعل بينما المواطنون البسطاء يُسألون. وهذا الوضع أشبه ما يكون بما خطَّته أنامل جورج أورويل في رائعته عن استبداد الحزب الحاكم والصورة الخرافية التي يقدم بها "الأخ الكبير"، فقد ورد في أحد الكتب التي حرص بطل الرواية ونستون سميث على قراءتها لكونه محظور في أوقيانيا وصفٌ للتركيبة العامة التي يقوم عليها المجتمع الأوقياني، بحيث : "..على قمة الهرم يأتي الأخ الكبير وهو معصوم من الخطأ ويتمتع بقدرة مطلقة، وكل نجاح وكل إنجاز وكل انتصار وكل اكتشاف علمي ينسب إليه كما أن كل معرفة وكل حكمة وكل سعادة وفضيلة إنما يعزى الفضل فيها مباشرة إلى قيادته الرشيدة الملهمة"[2]. فالنص لا يحتاج إلى مزيد تعليق في وصفه للبؤس الذي يشهده الواقع السياسي العربي الحالي.    
ثانيا: سعي الأنظمة الشمولية الدائم في سبيل تأبيد احتكارها للسلطة إلى تزوير الحقيقة والتاريخ، فالكاتب يتحدث في عمله الذي بين أيدينا عن وجود هيئة ضخمة تسهر على إعادة كتابة الأحداث التاريخية باستمرار بما يتناسب والحقائق الموجودة على الأرض وبما يكفل للحزب الحاكم استمرار وضع يده على مقاليد الحكم، هذه الهيئة تسمى بوزارة "الحقيقة" في إشارة تهكمية واضحة من صاحبنا إلى قلب المفاهيم والحقائق الذي تمارس من خلاله هذه الأنظمة الديكتاتورية طمس الحق في أعين المواطنين عبر إشاعة الكذب وإعادة تشكيل الوعي لدى الجمهور وتزييفه، ومن أهم الأساليب المبتكرة في الرواية لبث النفاق السياسي وتعليمه للناس ما سماه صاحبنا "بالوعي المزدوج"، وهو "أن تعرف وأن لا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة ومع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء، أن تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان ومع ذلك تصدق بهما"[3].
      النظام السياسي العربي المهترئ لا يبتعد كثيرا عن هذه الصورة الحالكة، فهو يعلم يقينا القدرة الكبيرة التي أصبح يتمتع بها الإعلام في ثلم أساسات الاستبداد وتقويض بنيانه، لهذا فهو يعمل بكل جهد متاح لديه للتحكم في وسائل الإعلام وتوجيهها، وفي المقابل محاصرة كل القنوات المستقلة والحرة ووأد عملها في المهد، لهذا لم يكن غريبا أن تصبح الدول العربية برمتها في ذيل التصنيف العالمي في مجال حرية الرأي والتعبير.
      ولعل المتتبع لأغلب وسائل الإعلام العربية يكشف بيسر مدى الزيف الذي تمارسه هذه الوسائل وكذا التشويه والتزوير الذي تتعمده للحقائق على نطاق واسع، ناهيك عن التحريض الطائفي والمذهبي الذي انخرطت فيه بتوجيه مباشر من النظام السياسي.
ثالثا: بالإضافة إلى "وزارة الحقيقة" يمتلك النظام الحاكم في رواية أورويل جهازا بيروقراطيا آخر لتطويع المخالفين هو "وزارة الحب" التي تتولى مهمة التعذيب النفسي والجسدي للمخالفين وإعادة تأهيلهم للاندماج مجددا في المجتمع في أفق تصفيتهم، ففي الغرفة 101 تلقَّى ونستون سميث صنوفا من التعذيب والقهر النفسي ما جعله يخون صديقته جوليا بسهولة رغم كل العهود والمواثيق التي قطعها على نفسه، وكل الإباء والشموخ الروحيين اللذين أبداهما قبل أن ينهار في نهاية المطاف ليصيح بكل ما أوتي من قوة "افعلوا بذلك بجوليا افعلوا ذلك بجوليا"[4].
      لا يخفى على القارئ اللبيب ما يعانيه المواطن العربي من ضنك العيش وقهر الغلبة التي سلبت كرامته ومواطنته وحقوقه دونما قدرة على إبداء اعتراض حقيقي على السياسات التسلطية للأنظمة الديكتاتورية، ورغم أن الحراك السياسي الذي شهدته الدول العربية إبان الربيع العربي الذي كسر حاجز الخوف لدى العديد من الفئات الشعبية، فإن غالبية هذه الشعوب قد نكصت من جديد إلى استعذاب واقع القهر. أما التعذيب الجسدي والتغييب القسري الذي تسومه هذه الأنظمة لمواطنيها في ردهات السجون والمعتقلات فحدث ولا حرج.
رابعا: التطبيع مع الموت ظاهرة فريدة في الرواية التي بين أيدينا، فواقع التفجيرات وسقوط الصواريخ شبه اليومي، والذي يروح ضحيته العديد من الأبرياء، أضحى صورة مألوفة في لندن:المدينة الصاخبة التي تعج بكل أنواع الفجور والفساد، ويُخامر ونستون سميث الكثير من الشكوك حول مصدر هذه التفجيرات، ويكاد يجزم أن الحزب هو الذي يقف خلفها، بغرض تشديد قبضته الحديدية على الحكم عبر صنع أعداء وهميين وتسويقهم في الإعلام العمومي قصد تجييش مشاعر الناس وتوحيدها ضد هذا العدو الوهمي الذي لا يعرفون عنه سوى طابور الإعدامات الميدانية في الساحات العامة التي تتم بين الفينة والأخرى. ولا يألو الحزب جهدا لإذكاء هذه المشاعر في إشاعة ثقافة الكراهية من خلال تنظيم ما يمكن نعته ب"مواسم الكراهية"، فقد خصص الحزب لهذا الغرض دقائق للكراهية معلومة كل أسبوع، وأيضا خصص للأمر أسبوعا سنويا، يصب فيهما المواطنون "الشرفاء" جمَّ غضبهم على أعداء الدولة الوهميين.
      الواقع العربي اليوم هو أيضا أضحى أكثر تطبيعا مع الموت من أي وقت مضى، فالحروب القذرة ولعنة التفجيرات اليومية خلقت لدينا إلفا غير معهود مع الموت، بحيث لم نعد نكترث لآلة القتل التي تحصد الأرواح أو نأبه لصور الأشلاء الممزَّعة في الشوارع والجثث الملقية على الأرصفة.
      هذه الصورة السوداوية التي نحت فصولها جورج أورويل في روايته هي من قبيل أدب المدينة الفاسدة "ديستوبيا"، حيث يتخيَّل الكاتب مجتمعا فاسدا تنهار فيه الأخلاق والقيم، ويسود فيه البؤس والقهر والتسلط، وغالبا ما يكون هذا النوع من الأدب رمزيا وتحذيريا لما يمكن أن تتعرض له البشرية من الويلات والمعاناة، لهذا لا تَخفى في هذه الأعمال الدوافع السياسية والاجتماعية، والشيء الذي أثار انتباهي في الرواية هو الإشارات المتكررة للكاتب إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه العامة في مقاومة الوضع الفاسد وتغييره، فنجده يكرر في مواضع متعددة وبعبارات متقاربة "إن كان هناك من أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب"[5]، وذلك بعد أن خاب أمله في قدرة النخبة على التغيير، سواء من داخل الحزب "بحيث لا يمكن إسقاط الحزب من داخله"[6]، أو من خارجه بحيث يستحيل على المعارضة فعل ذلك في ظل واقع القهر تحت حكم الأنظمة الشمولية، وذلك رغم الكثير من البهرجة الإعلامية التي يروج لها الحزب بخصوص المؤامرات والدسائس، كما أن "أمر الانتفاضة يعرف من نظرة العيون أو نبرة الصوت"[7].
       لذلك لم يبق من أمل سوى عامة الشعب، فرغم سهولة ويسر سيطرة الحزب على العامة من خلال الدجل والإشاعة فإنه "لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كانت هناك حاجة للتآمر، فكل ما يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزالة الذباب بعيدا عنه. ولو شاءوا لمزقوا وأحالوا الحزب هشيما تذروه الرياح... ولا بد أن يخطر لهم ذلك عاجلا أو آجلا"[8].
      ولا يسعني في الأخير إلا أن أكرر ما قاله ونستون سميث: " إن كان هناك من أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب".          


[1] -انظر إلى كم الفضائح التي أصابت دبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية في مقتل بعض التسريبات المتتالية لتعمد إدارة هذه الدولة إلى مراقبة والتصنت على كل شيء بدون حسيب أو رقيب.
[2] -جورج أورويل، 1984. ترجمة: أنور الشامي، نشر المركز الثقافي العربي. طبعة سنة 2006. ص245.
[3] - نفس المرجع ص43.
[4] -نفس المرجع ص337.
[5] -المرجع نفسه ص83. وفي ص258 يقول: "إن المستقبل ملك العامة".
[6] -نفس المرجع ص83.
[7] -نفس المرجع والصفحة.
[8] -نفس المرجع والصفحة.

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

البشير الدامون سرير الأسرار

لقد قرأت بتأن ورويَّة رواية المبدع الألمعي السيد البشير الدامون "سرير الأسرار"، فوجدت حبكة روائية متقنة، ولغة فصيحة راقية، وارتباط عضوي "الإحالة على المثقف العضوي" بمعاناة المجتمع وقضاياه، لكن هالني تلك الصورة السوداوية القاتمة التي رسمها الرجل للوسط التطواني في المدينة العتيقة.
         صحيح أن جزءا من الصورة التي قدمها ترفع القناع وتميط اللثام عن أمراض "القاع" في مجتمعنا التي كثيرا ما ننكرها أو نغض الطرف عن وجودها حتى لكأنها خيال أو سراب لا يظهر إلا في أحلامنا العابرة، لكن في المقابل ليس صحيحا أن أفراد المجتمع يتوزعون ما بين موبوء أو مجذوم بل مازال في قاع المجتمع كما في صدارته بقية نصاعة ونقاء تحكم أسرنا وأشخاصنا، ولعل شخصية السي الأمين وكذا الفتى الرنكوني اليافع علي "يقطن بضواحي الرنكون" ص23 في الرواية المذكورة نماذج  للفضيلة والإنسانية المؤمنة بالقيم النبيلة، لكن ما ألاحظه على الكاتب هي تلك التعميمات الكثيرة والأحكام النمطية العامة التي سادت غالب روايته وطبعت شخصياتها المختلفة.

        لم أتمكن بعد من مشاهدة الفيلم المرتقب للجيلالي فرحاتي حول الرواية، ولست أدري كيف حاول أن يلامس التيمات الشائكة في الرواية ويقدمها ببراعته السينمائية المعهودة، أتمنى أن يكون قد وفق لذلك.   12/02/2014

السبت، 26 أبريل 2014

نظرات في كتاب " فيلسوف في المواجهة"
      "فيلسوف في المواجهة" كتاب للباحث عباس أرحيلة خصصه لمحاولة رصد ومقاربة مشروع الدكتور طه عبد الرحمان من بعض جوانبه، وذلك نظرا للحصار والإهمال الشديدين الذين طالا هذا المشروع في عالمنا العربي، كتاب أنهيت قراءته للتو بعد أن استغرقت في قراءته مدة ثلاثة أيام كاملة، و قد كنت أزمعت في البداية أن أخصص لقراءته أربعة أيام متواصلة غير أنني أجهزت على بقيته اليوم لَما وجدت صاحبه كان أوفق إلى الصواب وأسدَّ في التحليل والمعالجة للفكر الطهائي في الفصول الأخيرة منه في الفصول الأولى، فشدني إليه شدا ولم يرخ تلابيبي إلا في الصفحة الأخيرة منه.
      وقد وجدت الرجل في مؤلفه يكتب بعين الرضا ويصدر عن حماسة المناضل المنافح عن فكر د.طه ومشروعه الفلسفي -فهو لا يتواني في أن يعده د.طه "ألمع العقول في عالمنا الإسلامي العربي إبهارا وإبداعا.. وأكثرهم ابتكارا واختراعا وإنشاء، وأوحدهم في مواجهة مقلد العصر"[1]-، أكثر مما يقف موقف الباحث المحايد أو الناقد البصير الذي يُعنى بتحليل الخطاب وتفكيك المناهج واستنتاج الخلاصات والنتائج ثم يترك للقارئ حرية إصدار الأحكام.
      وقد أفضى هذا الصنيع بكاتبنا إلى الانتصار لصاحبه في مواقفه وأرائه جميعها ضد خصومه ممن ناصبهم طه عبد الرحمان الخصومة، بداية من ابن رشد والفلسفة الرشدية، وانتهاء بعبد الله العروي وفلسفته التاريخانية، مرورا بعموم الحداثيين والعقلانيين والدهرانيين الذين رماهم عن قوس واحدة وألقهم نفس الحجر. فنسب للرجل وفكره التجديد كله والتوفيق جميعه ونفى عنه كل إمكان للتقليد أو التبعية، وفي المقابل لمز خصومه بالتقليد وغمزهم بالتبعية دون تحفظ أو تمييز وأبعد عنهم كل إمكان للتجديد والاجتهاد. وأنا أسوق هنا شهادته في د.طه عبد الرحمان الكفيلة وحدها بكشف تصوره للمشروع الطهائي-كما يحلو له أن يعبر- حيث يقول على لسانه بكل فخر واعتزاز: "أنا طه عبد الرحمان من سيتولى مهمة الإبداع نيابة عنكم ! وأنا من ستعلمكم كتبي كيف تخرجون من كهوف التقليد، وكيف تنشئون فكرا مغايرا لغيركم... وكيف تواجهون العولمة وتفهمون الحداثة..."[2]. ولعلي لا أجانب الصواب إن زعمت أن  موقف الرجل هذا يلخصه بأمانة كبيرة قول الشاعر المشهور:
                  وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** لكن عين البغض تبدي المساوي.
      أشرت سالفا إلى كون المؤلف قد رهن مهمته في هذا الكتاب بالنظر فقط إلى بعض أوجه النشاط في المشروع الطهائي دون غيرها، وذلك من خلال التركيز على إبداعاته الفلسفية التي ميّزته عن بقية الفلاسفة العرب المحدثين "المقلدة"، الشيء الذي أدى بالضرورة إلى تصادم هذه الظاهرة الإبداعية الفريدة مع بقية المشروعات الفكرية الأخرى التي تعج بها الساحة الفكرية العربية، يقول صاحبنا: ".. سأكتفي هنا بمقاربة فكرتين اثنتين: الأولى النظر إليه باعتباره ظاهرة إبداعية في عالم الفلسفة، والثانية النظر إلى تصادم هذه الظاهرة بمتفلسفة العصر، ممن يُعدّون من أبناء جلدته"[3]. وهذا ما يحيلنا مباشرة على عنوان الكتاب "فيلسوف في المواجهة"، ويحيل أيضا على اللبنة الأولى في مشروع طه عبد الرحمان التي هي الهدم قبل البناء والنقد قبل الإنشاء، إذ مما لا شك فيه أن الرجل قد تفرغ في جزء غير يسير من أعماله إلى نقد المفاهيم الأساسية المشكلة للفلسفة الغربية المعاصرة والتي تبناها الفلاسفة والمفكرون العرب المحدثون وكرعوا من حوضها الآسن دون غربلة ولا تمحيص ، بله العمل على محاولة التأصيل أو إعادة التوطين وفقا للمجالات التداولية العربية والإسلامية، ومن أهم هذه المفاهيم: الحداثة والعقلانية والعلمانية وغيرها. وصنيع الرجل هذا حسب الكاتب يعتبر من بين أهم الأسباب التي جرَّت عليه نقمة الرشديين والتاريخانيين والحداثيين والعلمانيين مجتمعين.
      لكن ما ينبغي التنبيه إليه في هذه العجالة أن الوجه الصدامي لمشروع طه عبد الرحمان بالطريقة التي قدمه بها الكاتب وأوغل في نعته به لا يعكس الوزن الحقيقي لهذه القضية عند الرجل حسب رأيي، إذ أعتقد جازما أن اهتمام الرجل وانشغاله بتشييد أركان فلسفته وتأثيل بنيان مشروعه كان أهم، وإن برز في ثنايا ذلك نقضه لبعض المفاهيم التي ملئت الدنيا وشغلت الناس، فالأمر إذن لا يعدو أن يكون حلقة من حلقات النسق الفكري المحكم للرجل، لكنه لم يكن ليبلغ شطر مشروعه ولا نصفه بل هو إلى الأساس أقرب منه إلى البناء.
          ومن الملاحظات المثيرة التي شدّتَ انتباهي في تقريب صاحبنا لأفكار طه الرحمان هو الاختصار الشديد لها والإيجاز المخل لمقولات الرجل وجهوده الشيء الذي لا يتيح للقارئ تكوين فكرة مكتملة عن المشروع الطهائي، ففي معرض الحديث عن نقد د.طه لمفاهيم الحداثة والعقلانية ألمع إلى بعض النتف اليسيرة وأشار إلى بعض الشذارات العابرة واعتذر عن الباقي بدعوى عدم مناسبة المقام للإسهاب في بيان الكيفية التي نقض بها الأستاذ طه هذه المفاهيم، يقول في معرض بيانه لآليات النقد والتفكيك التي أعملها د.طه لتعرية مفهوم العقلانية بشقيها الديكارتي والكانطي: "ولا يمكن أن يتسع الحيز لبيان الكيفية التي انتقد بها العقلانية..."[4].
      ولعل صنيعه هذا لا يتناسب مع النسقية العامة التي نسجها في بداية كتابه والقاضية بالكشف عن الصدامات والمناكفات العلمية التي عرفها المشروع الطهائي مع المفاهيم الغربية بصفة خاصة، ومعلوم أنه من بين أهم المفاهيم التي أعمل فيها د.طه مشرط الفحص والنقض هو مفهوم العقلانية، فكان حري بصاحبنا أن يعطي للمصطلح حقه من حيث بيان الطرق والمناهج والآليات التي استعملها الرجل في معالجته عن طرق بيان مثالبه وإصلاح عواره.
      كما أنه عمد إلى عقد مقارنات بين مشروع طه عبد الرحمان التجديدي ومشروع عبد الله العروي التاريخاني وخلص من خلال ذلك إلى عدة استنتاجات كبرى، لكنه للأسف لم يعتمد في هذه المقارنة والنتائج المبنية عليها إلا على مؤلَفين يتيمين فقط، كتاب لكل واحد منهما يقول:" وسأحاول إن أشير باقتضاب إلى طبيعة منهج كل منهما، وما بينهما من فروق، ورأي كل واحد منهما في مجهود الآخر، اعتمادا على ما ورد في كتابيهما:
                   1-مفهوم العقل، مقالة في المفارقات. د. عبد الله العروي.
                   2-فقه الفلسفة-2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل. د.طه عبد الرحمان"[5]
      وهذا يعكس بوضوح مدى العمومية التي اتسمت بها هذه المقارنات والمفارقات بين المشروعين في هذا الكتاب، كما أنها تفسر بيسر التسرع الظاهر في إصدار جملة من الأحكام العامة التي ختم بها صاحبنا هذا الجزء من عمله في الكتاب حيث أنه في الوقت الذي بشر فيه بالأفق الرحب الذي ينتظر المشروع الطهائي فإنه حكم على مشروع العروي بالموت والإفلاس "وكانت نهاية التاريخانية"[6] حسب تعبيره. وكان حريا به أن يتأنى قبل إعلان هذه النتيجة التي تحتاج إلى مزيد تبين واستقصاء لكتابات الرجلين وفكريهما.
      عدا هذه الملاحظات السريعة فإنني قد استفدت من الكتاب أمورا كثيرة لا يسعني بحال إنكارها، فقد أضاء لي الكتاب الكثيرة من القضايا التي كانت ما تزال معتمة لدي في فكر طه عبد الرحمان، وأنار لي دروب القراءة الصحيحة للفلسفة الإبداعية الطهائية، ففقد وجدت الكتاب حسنا في بابه، جيدا في الإبانة عن المظاهر الإبداعية للفلسفة الطهائية، طيّبا في عقد المقارنات وكشف طرق المفاضلة بين مشروع طه عبد الرحمان وغيره من المشاريع والفلسفات الأخرى.
      ولا يسعني في الأخير إلا أحيي الرجل على جهوده المثمرة وسعيه الدؤوب لتقريب الفكر الطهائي من عموم القراء خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الصعوبات التي تكتنف فهم المشروع على حقيقته وكذا الإهمال والحصار المطبق الذي عانى منه.
            والحمد لله رب العالمين.
ظهيرة الثلاثاء 22 مارس 2014.




[1] -عباس أرحيلة، فيلسوف في المواجهة: قراءة في فكر طه عبد الرحمان. المركز الثقافي القومي،الطبعة الأولى 2013. ص7.
[2] -المرجع نفسه ص183.
[3] -المرجع نفسه ص8.
[4] -المرجع السابق ص154.
[5] -المرجع نفسه ص112.
[6] -المرجع السابق ص130.